تمر الجامعة العربية في هذه المرحلة بإرهاصات قاسية تعكس ما يدور على الساحة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، وكذلك ما تتعرض له المنطقة من ضغوط محلية وخارجية. وما دار في أروقة القمة الأخيرة في مدينة «سرت» الليبية يُعبِّر عن ذلك بجلاء، حيث تم الإعداد لانعقاد اجتماع الاتحاد الإفريقي مع الدورة الطارئة للجامعة لتمكين قادة إفريقيا من التواجد في الزمان والمكان؛ في مشهد يُعبِّر عن الهموم والتحديات المشتركة طمعًا في الخروج بحلول تخفف من الآلام التي تعيشها الدول المعنية في الفضائين العربي والإفريقي، حيث تسيل الدماء، وتعم الفوضى، ويتوغل التدخل الأجنبي، وينتشر الفقر والمرض -بدرجات متفاوتة- في الدول الإفريقية والمنطقة العربية. وكما اتضح من النتائج، انقسم العرب إلى فريقين الأول يريد الإصلاح ابتداءً بتغيير مسمى ميثاق الجامعة -ليكون اتحادًا- تناغمًا مع مسميات أخرى مثل الاتحاد الأوروبي، والآخر الإفريقي. والفريق الآخر يصر على الاحتفاظ بالمسمى كما هو والعمل بمبدأ التغيير التدريجي. والنتيجة حُسمت لصالح التمسك بالتراث على حساب الحداثة والمستقبل حتى يأتي الله بدماء جديدة تواكب المستجدات وتحاكي واقع الأمة الأليم. وفيما يخص القضايا الرئيسية تحديدًا الصراع العربي الإسرائيلي، وحروب التفتيت والتفكيك، في: السودان، واليمن، والصومال، والعراق، فالقرارات والمواقف الضبابية ظلت سيدة الموقف برضا الأطراف المعنية وغصبًا عنهم عندما يستوجب الأمر ذلك. والإحباط الذي حل بشعوب المنطقتين المتجاورتين، جغرافيًا، وتاريخيًا، وحضاريًا، هو مصدر ارتياح، للقوى الخارجية، التي تراقب ما يحصل وعينها على استمرار هيمنتها من أجل استنزاف الثروات الطبيعية والحفاظ على أسواق مربحة لمنتجاتها الصناعية، وعلى رأسها المعدات الحربية التي تلتهم الأموال، وتظل في مخازنها يأكلها الصدى، وإن استخدمت فالنتيجة حصد الأرواح لصالح القوى الخارجية. إن التباين في وجهات النظر بين دول الجامعة العربية، مصدرها الثروة والتحالفات الخارجية، والتفاوت في مستويات التنمية والدخل القومي، والتشبث بالكراسي القيادية، كما أنها المحرك الرئيسي لأطماع الآخرين وسطوتهم على المنطقة واستخفافهم بإداراتها، التي تعمل بإيحاءات من الخارج أكثر من توخيها مصالح الشعوب وتحسس آلامها والخروج بها من حلقات الفقر والتخلف. وما حصل -في قمة سرت- يؤكد أن الفضائين العربي والإفريقي، على عتبات تحولات خطيرة تُحرّكها الأطماع الخارجية أكثر من تفاعل إرادات محلية تعرف ماذا تريد وكيف تنهض بشعوبها من الأزمات التي تعيشها من بداية القرن العشرين حتى الوقت الراهن. وبالمنظور العملي يجب الاعتراف بأن مصير التجمع العربي في أي شكل من الأشكال، مرتبط بمصير القارة الإفريقية بحكم الجغرافيا، والتداخلات التاريخية والدينية واللغوية. وهنا تكمن حتمية العمل المشترك، وإذا كان هناك تقصير -وهذا واقع الحال- في إحراز تقدم في هذا الاتجاه فإن الجانب العربي يتحمل العبء الأكبر من المسؤولية بسبب غياب استراتيجية واضحة تحدد معالم العلاقات الثنائية -بشكل جماعي- بدلًا من المبادرات الفردية، التي تُحرِّكها المصالح الضيقة. وما تم تحقيقه من التقارب بين دول المغرب العربي، ومصر والسودان، من تقارب في إطار الاتحاد الإفريقي، يجب تعزيزه بتقارب مدروس، بين دول الجزيرة العربية وجنوب القارة الإفريقية، لتخفيف وطأة الصعوبات التي تعاني منها الدول الأفريقية، ولتلتقي مع جهود دول المغرب العربي تجاه القارة الإفريقية، التي تنعم بثروات طبيعية توفر فرص استثمارية مربحة. إن إهمال الشأن الإفريقي يفوت على العرب فرصة تحالف مضمون النتائج -على كل المستويات- عندما يدار بشكل جماعي، وكريم، في نفس الوقت، بدلًا من ترك القارة السمراء فضاء مفتوح تلعب فيه إسرائيل ومن على شاكلتها كيف تشاء لتعزز وجودها وقدراتها الاقتصادية وتقوي هجماتها القمعية ضد الشعب الفلسطيني والجوار العربي. والجامعة العربية تَجمُّع يفترض أن يُعبِّر عن رغبات الشعوب، ولكن الحلول التي ينبغي أن يطلع بها ذلك التجمُّع ستنتظر -مع الأسف الشديد- الجيل الثاني من القيادات -وربما الذي بعده- لكي تخرج من نمطية الخوف من الإصلاح والبقاء على وتيرة التخلف والتمسك بشرعيات هشة وضعت المنطقة في مخالب الاستبداد، والابتزاز، والأطماع الأجنبية. ولا يوجد أبلغ من ما ورد في محكم التنزيل (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).. الآية.