كُنتُ ومازلتُ مِن أكثر المُتفائلين بفتوحات ثورة الاتِّصالات وتَقنية المَعلومات، وما تُبدعه مِن فنون المُحدثات، أو تُغيِّره مِن بُؤس القَناعات، أو تَخلعه مِن زيف القِنَاعات. لَكن «الزِّين ما يكمل» -كما يقول أهل الفن- فلم تَعُد اتِّصالات الجوَّال والرَّد على رَسائله عِبئًا ثَقيلًا، كَما كُنت أتصوّر، بعد أن تسبَّبت «العولمة الرَّقميّة» في الانشطار الذِّهني لمَن «يَطمع» -مِثلي- في مُتابعة كُلّ شيء في كُلِّ وَقت، وصَار لِزامًا عليه أن يستعين ب“خبرة وفطنة ووقت” عَشرات الأشخاص، للإحاطة بالحدِّ الأدنى مِن نِعَم وامتيازات الفَضاء الأثيري. وإذا أردنا أن نُقسِّم سَاعات اليوم على اهتماماتنا الإلكترونيّة، سنَجد أنَّ اليوم يَبدأ بفتح البريد الإلكتروني لقِرَاءة الرَّسائل، وتَحميل الملفَّات المُرفقة، مِثل الكُتب المَسموعة، والأغاني والصّور الجميلة، وفَتح الرَّوابط العَاجلة التي يَنتقيها الرَّاصدون الأعزَّاء بعناية، ثُمَّ كِتابة الرّدود على أبرز الرَّسائل، أو أكثرها إلحَاحًا. ثُمَّ نَنتقل إلى المَواقع الإلكترونيّة لبعض الصُّحف الورقيّة والرَّقميّة؛ لقِراءة أبرز المَقالات والأخبار، والمُقابلات والتَّحليلات. وفي المساء تغرينا حيويّة مواقع «فيس بوك» و»تويتر» حيثُ يبلغ التَّفاعل أوجّه -في بيئة لا يَبخل فيها أحد على غيره- في تَبادل معلومات قيّمة، أو مقالات شيّقة، أو كُتبَ نادرة، أو ملفَّات مُدهشة، أو صور استثنائيّة، أو تَعليقات آنية. وإن لم يغلبنا النّعاس نَجد -في قناة العَالَم الحقيقيّة- يوتيوب مُتّسعًا لمعرفة الصُّورة الحقيقيّة للشّعوب؛ بِلَا مكياج أو عمليّات تجميليّة، حين يكون كُلّ شخص -في العَالَم- مُؤهَّلًا لوظيفة مُراسل مُختص في القضايا التي يَهتم بها، دون أن يَتعرَّض تقريره لمونتاج المُنْتِج أو تَحسينات المُخْرِج. وإن تَجافت جُنبنا عن المَضاجع؛ خَوفًا مِن تفويت ما قسم الله لنا؛ مِن الوجبات الشَّهيّة الرَّقميّة، نَذهب إلى المُدوِّنين الذين يكتبون صفحة جديدة مِن تاريخ جديد كُلّ يوم، دون هَيمنة أو سطوة مِن أي أحد؛ على أدوَاتهم وأفكَارهم، حيثُ ينثرون كُلّ شَيء في مدوّنات لا نهائيّة، تَتناسخ كالبكتيريا الحَميدة في الفَضاء الافتراضي. هذا مِن جانب الاطّلاع فقط، أمَّا مَن يَختص في فنون الكمبيوتر وبرمجيّاته الحديثة، فلا أعتقد أنَّه سيَجد مُتّسعًا مِن الوقت للاستمتاع بفَاكهة الانترنت المتنوّعة، وأستغرب أنَّ هناك مَن يُضيِّع وقته في المنتديات السَّطحيّة، وغُرف الدَّردشة والمَاسنجر، والبَال توك وال»سكاي بي» ويهمل نصيبه مِن غيرها. حَسنًا.. ماذا بقي..؟! بقي القول: إنَّ مُتابعة المَواد المُتميّزة التي تَعجّ بها صفحات الإنترنت، تضع الإنسان أمام ثَلاثة حلول لا رَابع لها، فإمَّا أن يُوظّف عدّة أشخاص؛ ويوزّع عليهم المهمَّات المُناطة بِهم -حَسب تخصُّص كُلّ واحد مِنهم- وإمَّا أن يكون إنسانًا خَارقًا لا يَكل ولا يَمل مِن التَّصفُّح والمُتابعة على مدار السَّاعة، أو أن يُجري لنفسه عمليّة استنساخ، بحيث تَتعدَّد ذواته حسب اهتماماته وأدواته. [email protected]