عندما نتطرق للحديث عن رسالة الفن، التي لم تعد ترفًا أو تسلية تمارس، كما يدرك معانيها العميقة غالبية الشرائح المتحضرة بالمجتمع، فإن ذلك المفهوم يدفعنا للحديث عن ظاهرة متميزة للغاية واستثنائية في كل مراحلها المتعددة، حيث يصفه النقاد ب “الكوكب المضيء” في سماء الأغنية العربية أجمع، وتندرج تحت ضوئه المتوهج نخبة كبيرة من النجوم الصغيرة مستمدة منه إشعاعاتها الإبداعية النضرة، ليظل هذا الرجل الكبير ذو القامة العالية من أهم أعمدة الفن قاطبة ولتظل أعماله على اختلاف تنوعها (عاطفية، وطنية، مقطوعات موسيقية) إرثا يستمد منه الأجيال الزاد النقي. وبدون أي جدل بيزنطي عقيم واحترامًا للحقيقة الناصعة على أن تسود نقول: بأن الرمز الكبير “طلال مدّاح” يرحمه الله ونحن نعيش ذكرى رحيله العاشر، قد حمل هموم الأغنية العربية بين أضلاعه، خاصةً بعد رحيل جيل العملاقة، وحارب لوحده منفردًا ليعيد للأغنية العربية احترامها وهيبتها وقيمتها الضالة بعد أن مارس الآخرون إذابتها في الوحل. فالحقيقة المطلقة أن تواجد هذا المبدع في تلك المرحلة الحرجة وما صاحبها من تردّي في ظل الأوضاع المقلوبة لهو إعلاء لشأن الفنون والآداب وخدمة لمستقبل الأغنية وحماية للذوق العام من البعض، الذين مارسوا العبث في آذاننا وليحافظ على تأهيل المستمع والارتقاء بالسمع. إن هذا الصوت المعبّر والمحمّل لنا بزخات المطر والأعشاب الزاهرة تتسابقه إليه الطيور بمواسم هجراتها لترسو على حنجرته لنتعرّف من خلالها على أن للأرض عشقا خاصا وللوطن بكاء خاصا ووفاء مختلفا، وهذا ليس بغريب على فنان ذي مفاهيم أكثر شفافية وقيم إنسانية متفتحة وسفير لا يطاول وشمعة مضيئة في حياتنا ونبضنا الاجتماعي. حقيقة وبدون أي جدل يذكر، لقد أوجد هذا الفنان المتميز وغير التقليدي للأغنية معانى رفيعة عندما يصدح، لمعرفته التامة بإمكانياته الصوتية الخلاقة ومساحاتها المتنوعة وزواياها الغامضة ليصنع لنا أعمالًا ناضجة دائمة الاستقرار في موطن وحنين ذكرياتنا. على الرغم من رحيله عن حياتنا فإن مشروعه الإبداعي يزداد تألقًا يومًا بعد يوم رغم أنف المتطفلين على موائد الأغنية العربية، فمنذ بداية الخمسينيات من القرن الماضي وحتى هذه اللحظات، نجده قد راهن على المستقبل ليستمر إيقاعًا إنسانيًا نشطًا وحالة من الرقي اللا محدود ومحققًا بذلك معالجة التقارب الحضاري مع الآخرين بصفته آخر المبدعين الكبار والأكثر قدرة على إثارة الجدل أثناء فترة حياته وحتى بعد مماته كإضافة لرصيده الإنساني الناصع البياض. أخيرًا.. لهذه الشخصية الإنسانية الخلاقة مني ومن كل محبيه على هذا الكوكب السيار كل الوفاء لما قدمه لهم من إبداعات فرضت نفسها بنفسها دون اللجوء للدعايات الإعلامية والإعلانية، ليبقى ذلك الرجل ذو القامة العالية مبحرًا بمشاعر وشرايين الجماهير. × المدينة المنورة