في 23 سبتمبر، من كل عام، يهل علينا يومنا الوطني الذي نعتز ونفتخر به؛ كونه اليوم الذي وحد فيه مؤسس هذا الكيان العظيم، الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- المملكة العربية السعودية. وقد يلحظ القارئ الكريم أنني في مقالات عديدة تحدثت عن الوطن.. وكيف أنه يتحتّم علينا ليس فحسب حبه وعشقه، بل وبذل الغالي والنفيس من أجل التفاني في خدمته، والاستماتة بالدفاع عنه؛ لأنه بيتنا الكبير الذي نعيش فيه ويضمنا جميعًا. الشيء الذي لا نستطيع فهمه أو هضمه هو: أننا نريد من هذا الوطن أن يعطينا كل شيء باستمرار، في حين أننا أنانيون بالفطرة، نحب ذاتنا كثيرًا، وبالتالي لا نريد أن نعطيه ولو القليل لنحافظ عليه لكي يستمر عطاؤه لنا، بعبارة أخرى أكثر وضوحًا ودقة إنه ليست هناك علاقة تبادلية فيما بيننا كأفراد من جهة، والوطن الذي يعطينا من جهة أخرى. فالعلاقة الموجودة الآن في الغالب هي علاقة واحدة، وعطاء واحد قادم من الوطن فقط. هذا الغياب الكامل عن الوطن وعطائه بدراية أو بجهل، هو الذي يحدد -من وجهة نظري- المعيار الذي نقول على أن فلانًا من الناس لديه انتماء حقيقي لوطنه، أو ليس لديه انتماء، فليس هناك في معيارنا وحكمنا على الشخص معيار آخر يقول لنا إن ذلك الشخص عنده فقط نصف انتماء للوطن، والنصف الآخر غير موجود، فإما أن يكون هناك انتماء أو لا يكون. الانتماء للوطن لا يعبر عنه بالأقوال، والكتابات، وحمل الشعارات، والاختفاء وراء الكلمات الرنانة، أو التعبير عنها بمصطلحات فلسفية متناثرة هنا وهناك، بل يعبر عنها بالأفعال الإيجابية والسلوكيات الحميدة، والأعمال المنتجة في الوقت ذاته. الانتماء للوطن لا يعبر عنه بالنفاق والتطبيل وطولة اللسان، واستخدام التورية والرمزية في القول والفعل، بل يعبر عنه بالإحساس والمشاعر الصادقة، والشفافية والوضوح في التعامل، والنزاهة في العمل، والإخلاص في حمل الأمانة للمحافظة على مقدراته ومكتسباته وماله العام، وقول الحق، ونصرة المظلوم، وإغاثة المستجير، ورحمة الصغير والعطف عليه، واحترام الكبير والأخذ بيده عندما تزل قدمه عن جادة الطريق، والصفح والعفو عند المقدرة، والإحسان للمسيء، وإماطة الأذى عن الطريق، ومساعدة المحتاج ومد يد العون له.. هنا نقول إنه متى ما توفرت تلك لذلك الآدمي فإننا بالإمكان القول بكل ارتياح بأن لديه انتماء لوطنه. وفي المقابل ينتفي الانتماء للوطن عندما نجد المواطن لذلك الوطن لا يهمه وطنه وناسه، يهمه فقط كم يكسب من ذلك الوطن، وكم يملك؟ يريد الأخذ ولا يريد العطاء.. وهنا سوف أورد مثلاً يدلل على تلك الشريحة، فعند تطبيق شعار السعودة قبل عدة سنوات، وكيف أن تلك السعودة سوف تجنب الوطن البلاء والوباء والمحن، واستنزاف ثرواته وخيراته، إضافة إلى تشغيل شريحة يقوم على أكتافها المجتمع ألا وهي فئة الشباب التي حوّلت الليل نهارًا، والنهار ليلاً، وأصبحت شرًّا قابلاً للانتشار، قوبل ذلك الشعار الوطني ليس فحسب بالرفض، بل وأيضًا محاربته، ووضع جميع العراقيل للحيلولة دون تنفيذه. الحقيقة التي يعرفها الجميع أن المستفيد الأول من توظيف تلك الطاقات المعطلة هم التجار، ورجال الأعمال في المقام الأول.. لماذا؟ لأنه بصريح العبارة إذا لم يوجد استقرار وأمن في الوطن، لا توجد تجارة مستمرة رابحة على الإطلاق. هذه فرضية معروفة تم اختبارها مئات المرات، ونجحت في الاختبار بجميع المقاييس، والعراق وغيره الآن شاخص أمام أبصارنا مثل حيٌّ لا يحتاج إلى تعليق. المشكلة مع تلك الشريحة أنها لم تقل خيرًا أو تصمت -مع بالغ الأسف- بل إنها هددت الوطن وأبناءه بأنها سوف تنقل أموالها واستثماراتها إلى خارج البلاد؛ للهروب من الالتزامات المفروضة عليها وطنيًّا وأخلاقيًّا، تلك الالتزامات البسيطة جدًّا تتمثل في توظيف أبناء البلد، والمؤهل منهم. تلك الشريحة -مع الأسف- توظف عمالة أجنبية البعض منها سرق، واختلس ملايين الريالات منهم بطرق احترافية وملتوية، والبعض الآخر بطرق تواطئية، وهربوا إلى أوطانهم. ولم يتم إلى الآن استرداد أموالهم، في حين أبناء البلد عندما يسرقون أو يختلسون -لا قدر الله- فإنهم بين اليدين الاثنتين بالإمكان إحضارهم في أي وقت. الأمر الآخر والذي يجب أن تعرفه تلك الشريحة من رجال الأعمال، أن الوطن على الرغم من أنه أعطاهم تلك الثروة الكبيرة من خلال المشاريع والمناقصات التي ترسو عليهم من قبل الدولة، إلاّ أنها لم تفرض عليهم ضرائب بنسب قد تصل إلى (15% أو أكثر)، كما هو الحال في بعض من الدول الخليجية وغيرها، فبدلاً من دفع تلك الضرائب والجمارك وغيرها من قبلهم هناك، فإن تلك النسبة توظف -بدون مبالغة- جميع العاطلين عن العمل، المؤهلين والمقتدرين منهم من أبناء الوطن. ما نريد قوله عندما أوردنا ذلك المثل الحي إن الانتماء الحقيقي للوطن ليس بلبس البشوت، والخواتم، واقتناء المسابح الثمينة، ووضع الأقلام ذات الماركات العالمية في الجيوب الأمامية، وغيرها من المظاهر -ولو أن الله جلّت قدرته يريد أن يرى نعمته على خلقه- نقول إن الانتماء الحقيقي للوطن نترجمها بعبارة واحدة تقول: مثلما أعطاك وطنك سدد له بعض الدَّين بتوظيف مواطن تكون أنت السبب -بعد الله- في سعادته وأسرته، عندما يكون هو عائلهم الوحيد، ومثلما أعطاك وطنك الأمن والأمان والاستقرار، وعدم وجود ضرائب حافظ على تلك النعم، بالتعاون مع سلطات المجتمع بتوظيف تلك القنابل الموقوتة التي تعيش بيننا؛ حتى يأمن المجتمع بأكمله من شرّهم. نحن لا نطالب بالمعجزات، ولا نطالب بأمور ليست في استطاعة تلك الفئة من رجال الأعمال وغيرهم من الميسورين -وقديما قيل «إذا أردت أن تُطاع فأطلب المستطاع»- بل نحن نطالب بتلك «الأرباح الهامشية»! فقط لكي تذهب للوطن وأبنائه لتعزيز وتماسك وحدته الوطنية، وجبهته الداخلية، وتعمق في أبناء البلد انتماءهم لهذا الكيان العظيم. نخلص إلى القول إننا في هذا الوقت بالذات بأمسّ الحاجة لأبناء هذا البلد الطيبين، وبخاصة رجال الأعمال، وما أكثرهم -كثر الله أمثالهم- لانتشال شباب من الفقر والقهر وغلبة الدَّين، والانحراف، ومن احتمال تجنيدهم ممّن لا يخاف الله فينا، وفي مجتمعنا، فهم في أمسّ الحاجة لأعمال تُدر عليهم دخلاً مجزيًا، ولأسرهم، فهذا مطلب بسيط ليس فيه منّة، بل إن تنفيذ ذلك المطلب هو قمة الانتماء الحقيقي للوطن والمواطنين، فهل نرى انتماءً حقيقيًّا للوطن من كل فرد وشريحة في المجتمع، أم نرى جحودًا ونكرانًا للجميل، ونستمر بالاحتفال بيومنا الوطني كل عام، مع قطاع خاص ورجال أعمال لديهم عقوق لهذا الوطن وأبنائه؟ وكل عام ووطننا بأمن وأمان، ونعمة ورخاء واستقرار، بمشيئة الله. د. سلطان عبدالعزيز العنقري [email protected]