أكد المفكر الجزائري الأستاذ مالك بن نبي -يرحمه الله- في جميع تحليلاته عن الاقتصاد في عالمنا الإسلامي والتنمية ما يوضح أن مشكلة معظم مجتمعاتنا الإسلامية الغنية أنها تمتلك رأس المال ولكنها لا تستثمره في قنواته الأساسية والمهمة، بل في شراء منتجات الحضارة الغربية وأدواتها وليس صناعتها وبالتالي أصبح هناك ما يسمي ب(التكديس)، و(الشيئية) من سمات المجتمعات المتخلفة. وما ذكره المفكر البحريني الدكتور علي فخرو في مقالة له مؤخرًا وهو المعروف بتحليلاته العميقة لمستقبل مجتمعاتنا الخليجية وما قد يواجهه الجيل القادم من صعوبات حياتية إذا لم يتم إعادة النظر في آلية استثمار الثروة النفطية في مساراتها الأصلية للبناء وليس للمباهاة بأموال هي ثروات الشعوب، تحدث في مقالته عن السفه الذي يمارسه أغنياء البترول العرب بثروة البترول من بطر وتبذير في بذخ أسطوري مبتذل لم يعد مقبولًا لا بمقاييس الأخلاق ولا الذوق الرفيع ولا أحكام الدين. وذكر أمثال النماذج التي تصرف الأموال في شراء السيارات الفخمة والغالية الثمن جدًا والمطلية بالذهب والمفاخرة بشراء أرقام مميزة قد تصل قيمة الرقم إلي مليون جنيه إسترليني ناهيك عن شراء الشقق الباهظة الثمن جدًا والطائرات الخاصة ..إلخ من نماذج تنشر عنها الصحف والمجلات توضح أن هناك خللا في الذهنية لدي هؤلاء الأثرياء وقد أنعم الله عليهم بثروات هائلة سيحاسبهم علي مصارفها كما سيحاسبهم علي مداخلها. ما ذكره الدكتور علي فخرو هو الواقع الذي أصبحنا نعيشه وأصبحت آلية تكديس الأشياء هي سمات أثريائنا ومباهاتهم بهذا السفه في الوقت الذي يقتات الفقر من مساحات كبيرة من شعوبنا العربية ولا نستثني مجتمعنا منها. هناك سفه يقابله ضنك وتقتير علي قنوات البناء الإنساني فنجد أن ما يصرف لبناء المسارح ودور اللهو ومكافآت من تسمي بالفنانات هي أرقام فلكية أدارت رأس الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي فكتبت مقالة مؤلمة وساخرة وقوية تحدثت فيها عن المفارقات بين آلية بناء الإنسان في الهند وبينها في معظم مجتمعاتنا العربية. فذكرت كيف أن الهند تخطّط لزيادة علمائها، وأعدَّت خطّة طموحًا لبناء قاعدة من العلماء والباحثين لمواكبة دول مثل الصين وكوريا الجنوبية في مجال الأبحاث الحديثة. واستفسرت الكاتبة: (لم أفهم كيف أنّ، بلدًا يعيش أكثر من نصف سكانه تحت خط الفقر الْمُدْقِع، يتسنّى له رصد مبالغ كبيرة، ووضع آلية جديدة للتمويل، بهدف جمع أكبر عدد من العلماء الموهوبين من خلال منح دراسيّة رُصِدَت لها اعتمادات إضافية من وزارة العلوم والتكنولوجيا، بينما لا نملك نحن، برغم ثرواتنا المادية والبشرية، وزارة عربية تعمل لهذه الغاية، (عَدَا تلك التي تُوظّف التكنولوجيا لرصد أنفاسنا)، أو على الأقل مؤسسة ناشطة داخل الجامعة العربية تتولّى متابعة شؤون العلماء العرب، ومساندتهم لمقاومة إغراءات الهجرة، وحمايتهم في محنة إبادتهم الجديدة على يد صُنَّاع الخراب الكبير. أيّ أوطان هذه التي لا تتبارى سوى في الإنفاق على المهرجانات ولا تعرف الإغداق إلاّ على المطربات فتسخو عليهنّ في ليلة واحدة بما لا يمكن لعالم عربي أن يكسبه لو قضى عمره في البحث والاجتهاد؟) كل من هذين المقالين يتوحدان مع حقيقة واحدة جاء ذكرها في تحليلات المفكر الجزائري مالك بن نبي -يرحمه الله- وهي أن بعض أثريائنا لا يفكرون، بل هم كالسائمة لا تري سوي موطئ حوافرها، حيث تبحث عن العشب لتزدرده!! أورد المفكر البحريني الدكتور علي فخرو أنموذجًا مما حدث لدولة الأرجنتين، دولة السًّمن والعسل في القرن التاسع عشر فلعلُّنا نأخذ العبر قبل فوات الأوان -كما قال- فقد كان الاقتصاد الأرجنتيني مشابهًا إلى حد كبير المستوى للاقتصاد الأمريكي. كان كلاهما، بلدًا زراعيًا وغنيًا. لكن مع مرور الوقت استعمل الأمريكيون فائض ثروتهم الزراعية الهائلة لبناء اقتصاد صناعي من خلال استيرادهم للفكر الصناعي الأوروبي. أما الأرجنتين فإنها استعملت فوائض ثروتها الزراعية الكبيرة لاستيراد بضائع البذخ والرفاهية من أوروبا ولصرف جزء كبير من تلك الثروة على حياة البذخ والابتذال التي عاشتها الأقلية الفائقة الغنى الأرجنتينية في مدن أوروبا. ونتيجة لذلك الفرق الهائل في الفهم والفعل بين البلدين انتهت أمريكا بالتقدم الزراعي والصناعي والتكنولوجي الهائل الذي نراه أمامنا، بينما انتهت الأرجنتين بإعلان إفلاسها المدوي منذ عشر سنوات وهبوطها من عاشر اقتصاد في العالم في الخمسينات من القرن الماضي إلى البؤس الذي تعيشه الآن كدولة من العالم الثالث الذي يكافح ويتعثر في نموه). لقد سبق للمفكر البحريني أن تحدث منذ سنوات عن ضرورة استثمار هذه الثروات النفطية الهائلة في بناء الإنسان وبناء الصناعة في دولنا الخليجية وإلا فان المستقبل القادم سيكون قاتمًا وربما بعد خمسين عامًا من هذا الاستنزاف لهذه الثروات ستصل بعض المجتمعات الخليجية إلي مرحلة ما قبل النفط!! ** كلما قرأت عن المزيد من بناء ناطحات السحاب في مجتمعاتنا الخليجية كلما تساءلت: إلى متى سيستمر هذا (التكديس) وهدر الثروات في (الشيئية) التي لا تبني إنسانًا ولا مجتمعًا؟ وكلما قرأت عن الاستهتار في شراء الكماليات اليومية بالملايين من الدولارات كلما تساءلت متى يستوعب هؤلاء أن المحاسبة الأخروية عن هذه الأموال للفرد منهم مذهلة ومرعبة: (من أين اكتسبه وفيم أنفقه)؟؟ [email protected]