ويأتي العيد السعيد معطرًا بشذى الأفراح والسرور، ولا تزال النفس عامرة بنفحات رمضان الإيمانية، التي أزالت الكثير من أثقال النفس، وما علق بها من أدران، وما صدر منها من آثام وذنوب، فعلينا أن نستحضر نعمة الله علينا بإتمام نعمة الصوم، فهلّا جعلنا من دروس رمضان زادًا وعونًا على النفس طوال العام من رمضان إلى رمضان، وما يجب أن يكون عليه خلق المسلم مع نفسه، وتجاه أهله وجيرانه وأقاربه من الأرحام، وتجاه الفقراء والضعفاء، فمن كان يسامح في رمضان عليه أن يكون متسامحًا بعده، ومَن كان يصبر على الجوع والعطش عليه ألاّ يسرف بعد ذلك، ومَن كان يصل رحمه عليه ألا ينساهم بعد الشهر الكريم. إن العيد ليس فقط نهاية لشهر مضى من الزمن ينقضي، ومن الأعمار، وإنما ثمار تغذي الروح والنفوس لمن يستفيد منها، فالصوم يطبع في النفس خشوعًا وتقوى، ويروض الجوارح، ويحسّن الأخلاق والمعاملات، ويغيّر طبائع النفس الأمّارة بالسوء، ورب رمضان، رب شوال ورب وكل الشهور، والزمن لا يتغيّر، وإنما البشر هم مَن يتغيّرون. وهذا هو التحدي في بوصلة حياة المسلم بعد رمضان، إلى أي اتجاه يكون، إلى الخير والطاعات، أم إلى الغفلة والآثام، وقطع صلة الأرحام، وانقطاع الصلة بما كان عليه الإنسان في شهر الصيام؟ إن شهر رمضان مدرسة عظيمة للتقوى، واكتساب الفضائل وممارستها، ومراقبة الله في السر والعلن، ولذلك فهو مدرسة للتدريب وتأهيل النفس على الخير، وما أعظمه من مدرسة، فإذا كان الإحساس بالجوع والعطش يجعل الصائم متلمسًا لشدائد الآخرين؛ فيدفعه إلى مساعدتهم، فإن هذا الإحساس درس عظيم لتدريب النفس على كسر الأنانية، وهذا زاد عظيم للصحة النفسية والرضا. كما أن مدرسة الصوم تعلّم الإنسان كيف يضبط أعصابه، ويكون حليمًا ويستجيب للتراحم ابتغاء جائزة الصبر، ولا توجد مهارة نفسية مثل الصوم في ضبط المشاعر، وترويض انفعالاتها. ومن دروس الصوم التدريب على يقظة الضمير، والخشية من رب العالمين.. بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بتجنب المحرمات، وهذه مدرسة تربوية عظيمة للنفس لا مجال فيها لسوء الخلق، وغفلة الضمير، وضياع الحقوق، واستقرار البيوت بالمودة والرحمة والصبر، ولا مكان معها للغش والخداع، وآثام الرشوة، وإهمال العمل، وكل ما يشكو منه المجتمع، والتنمية ومشكلات المعاملات.. إن الصوم بحق مدرسة التغيير، تدعو إلى اغتنامها في الأعمال والسلوك والعادات امتثالا لقوله تعالى : «إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم». كل ذلك أيُّها الأحبة يقوم على محاسبة النفس على الغفلة في الفروض والعبادات وفي المعاملات.. ومحاسبة النفس على حركات الجوارح وما تفعله.. ومحاسبة النفس كفيلة بردع عيوبها من الشحناء والبغضاء التي تدمر الحقوق الزوجية، وحقوق الجار، وحقوق الأرحام.. ومحاسبة النفس فيها انكسار لها تذللاً لله تعالى؛ فيصحو الضمير، وتتواضع النفس، وتتحسن الأخلاق، وتسود الحقوق، ويرتدع الظلم. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أتدرون مَن المفلس؟ قالوا: المفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع؟ فقال: (إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار). أعود وأؤكد على صلة الأرحام التي تحييها فضائل رمضان، وكفانا ركونًا إلى التكنولوجيا التي جردت البشر من المشاعر، فبدلاً من الزيارات جاء الهاتف، ثم أصبحت الرسائل القصيرة أسهل طريقة للواجب، وهي في حقيقتها هروب منه، وتضييع له، خاصة تجاه كبار السن الذين يؤذيهم السؤال برسالة بالجوال عوضًا عن الزيارة والاطمئنان بعد أن كانوا ملء القلب ومحل الاهتمام. فالمسافات قد تغير البعض والمال قد يغيّر النفوس، ومشاغل الحياة قد تحد من التواصل. ولهذا علينا الحذر من الغفلة ببذل الجهد ونخصص وقتًا لصلة الأرحام، وتجمع الأسر، وأن نسأل عن الضعفاء حتى لا يكونوا في طي النسيان حتى نحافظ على قيمنا ومجتمعنا بأخلاق ديننا. نسأل الله العفو والعافية، وعيدكم مبارك.