تمثّل الرسائل إحدى الوسائل التي ابتدعها الإنسان في سياق بحثه عن نوافذ للتواصل، وجسورًا للعبور كلما غابت الوجوه عن مصافحة بعضها، والألسن عن مخاطبة مثيلتها في براح اللقاء المباشر، لتنوب عن ذلك الرسائل في صورها المختلفة، وإن بقيت الحروف والطروس والمداد أهم الأدوات المستدعاة في مقام الرسائل، ليبرز في ذات السياق «الحمام الزاجل»، ومن بعده «ساعي البريد»، اللذين تكفّلا في الزمن السابق بإيصال الرسائل إلى وجهتها المعنية، لتجئ على إثرهما التكنولوجيا حاملة في طياتها سرعة تماثل «رجوع الطرف» في الاستدعاء وتقريب المسافة، وإيصال المكتوب.. و“الخصوصية” هي أول ما يتبادر إلى الذهب عند ذكر الرسائل، خصوصية تحفظها «المظاريف» ولا تكشف عمّا فيها، محكمة رتاجها بصور منضبطة تذهب أحيانًا في حذرها إلى استعمال «الشمع الأحمر» لتكريس مزيد من الخصوصية، وحفظًا لسرية المحتوى.. وبرغم كل الذي نشير إليه من خصوصية الرسائل؛ إلا أن بعضها يجد طريقه إلى الذيوع والانتشار، والانبساط في العلن، والدوافع لذلك كثيرة وعديدة؛ فالمراسلات بين الأدباء -مثلاً- تحمل في طياتها أدبًا يتجاوز الخصوص إلى العموم؛ لهذا فإن في نشر الرسائل المتبادلة بين أديبين فائدة كبيرة، ومثلها بين السياسيين، ففي الغالب يتعدى مضمونها الشؤون الخاصة إلى ما هو عام.. وبعض الكُتّاب يكتب رسالته إلى أحدهم ويتركها له في نافذة مفتوحة كالصحافة مثلاً، ودوافعه في ذلك شتى، يتجلى بعض منها في كتاب «رسائل وطنية بنكهة العطر» للكاتب عبدالرحمن بن محمّد السدحان، التي يقر صاحبها أنها «رسائل بنكهة العطر لمن كُتب من أجلهم، تلميحًا كان ذلك أو تصريحًا!»، وكلمة «العطر» في عنوان الكتاب وفي سياق هذه الإشارة من السدحان في مقدمة كتابه تحيلنا مباشرة إلى أن محتوى الكتاب لا يخرج من «تمجيد وإطراء ومدح» لمن كتبت في حقهم الرسائل، فدالة «العطر» لا تذهب باتجاه أي شيء سوى «الجمال»، وهو ما يقرره السدحان ولا ينفيه إذ يكشف عن ذلك في ذات المقدمة بقوله: «يضمُّ الكتاب مختارات من أحاديث كنت قد نشرتها عبر زاوية (الرئة الثالثة) في صحيفة (الجزيرة) خلال عقد من الزمان (أنادم) فيها نماذج الهُويّات المعروفة، ينتمي أفرادها إلى أطياف متباينة من الحراك الإنساني، محلّيًا وعربيًّا ودوليًّا، منهم الوزير والأديب والشاعر والمفكّر والسياسي ورجل الأعمال، وقد اصطفيت لهذا الكتاب (ضيوفًا) مِمّن لامس حراكهم شغاف الوجدان إبداعًا أو أشقاه شغبًا!.. وبعابرة أخرى هو منظومة (الرسائل)، في بعضها بوح من الإطراء بلا إسراف، وفي بعضها الآخر.. رشقٌ من العتاب بلا إسفاف، وهناك من بين مَن استضافهم الكتاب من رثيت غيابه رثاء المؤمن الصابر الصادق.. في ضوء هذه المقدمة، حدد السدحان معالم الطريق في رسائله، بين «بوح من الإطراء بلا إسراف»، “ورشقٌ من العتاب بلا إسفاف”، ورثاء لغائبين عن الساحة، لتأخذ الرسائل في عداد الحساب 41 رسالة، منبسطة في 195 صفحة من القطع المتوسط، وصادرة عن مكتبة العبيكان. يستهل السدحان رسائله ب “كلمة حق.. عن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -أيّده الله-”، وهي كلمة كتبها المؤلف في الذكرى الثالثة لتولي المليك -حفظه الله- مقاليد الحكم، حيث يبتدر مقالته قائلاً: «لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود -أيّده الله- إشراقات مضيئة تفيض إنسانية ورحمة وعطفًا إزاء من يؤهله موقف ما لذلك، لكنه -حفظه الله- في الوقت ذاته شديد البأس على المقصّر في أداء واجبه، أيًّا كان موقعه أو موقفه، أو زمانه أو مكانه، وتلك خصال شهدت بعضها أو سمعت أو قرأت عنها... ويعضد السدحان ذلك بعرض عدد من النماذج والمواقف الدالة على ما ذهب إليه حقًّا وصدقًا. وبمثل ما كانت الرسالة الأولى إلى المليك؛ جاءت الرسالة الثانية أيضًا لمقامه السامي موسومة ب “أبو متعب (أم القمم) في الكويت”، تناول فيها السدحان الدور الكبير الذي لعبه خادم الحرمين الشريفين في نجاح القمة العربية قبل الأخيرة التي عقدت في دولة الكويت، خاصة وأنها عُقدت في جوٍّ مشحون بعد أحداث غزة، وترقّب الشارع العربي لهذه القمة، ليصف الكاتب ما قام به المليك بقوله: «.. ثم ألقى الملك المفدى خطابه التاريخي المدوّي بلا هياج ولا افتعال ولا ضجيج، فرسم بكلمات بليغة العبارة، جزيلة المعنى، ناصعة الهدف خارطة الطريق لاقتحام أسوار الأزمة، موجّهًا الدعوة لإخوانه العرب إلى (كلمة سواء) لبدء صفحة جديدة من الاتفاق والوفاق حول ما يجمعهم ولا يفرقهم، ويقويهم ولا يضعفهم، ويكون عونًا لهم لا عبئًا عليهم..» وهكذا تتوالى رسائل الكتاب فثمة رسالة إلى الملك عبدالله عندما كان وليًا للعهد بمناسبة زيارته لمنطقة عسير وتدشينه لعدد من مشروعات التنمية بها، ورسالة إلى وليّ العهد الأمين صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز بمناسبة عودته إلى البلاد سليمًا معافى بعد رحلته الاستشفائية، أما الرسالة السادسة في الكتاب فتذهب باتجاه صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكةالمكرمة تحت عنوان «خالد الفيصل: توأمة بين الشعر والتنمية». ومن الشخصيات التي توجه إليه السدحان في كتابه برسائله، الدكتور عبدالعزيز الخويطر، وعبدالعزيز السالم، والدكتور غازي القصيبي قبل رحيله -رحمه الله-، والشيخ جميل الحجيلان، وعبدالكريم الجهيمان، والشيخ عبدالعزيز التويجري، وسعد بن عبدالرحمن البواردي، ومحمّد بن حميد، والرئيس الأسبق للولايات المتحدة جيمي كارتر، وأندرو كلجور وريتشارد كرتيس، وغيرهم مختتمًًا بالمفكر فرانسيس فوكوياما.