عندما نتحدّث عن العنف الأسري الذي يتعرّض له كثير من الأطفال.. وتعرّض له العديد من أبناء الأجيال الماضية.. نكتفي في الغالب بتجريم تلك الممارسات، أو توصيفها. قليلون منا الذين يدركون مدى خطورة تعرّض الطفل للعنف.. وخطورة استمرارية الآثار السلبية لممارسات العنف على مدار امتداد حياة الإنسان وتخطيه لمراحلها. كما أن القليل منّا هم الذين يدركون معنى العنف.. وصوره.. وأساليبه؛ لذا نجد أن معظمنا ينكر تعرّضه للأذى في طفولته من قِبل أهله، أو من قِبل أقرب المقرّبين. هذا الأذى قد يكون نفسيًّا، أو جسديًّا.. يمكن أن نعيه، أو لا نعيه.. نعترف به أو لا نعترف.. والصدمة النفسية في الطفولة تؤدّي إلى تأثيرات مؤذية عديدة.. تظهر بصورة مختلفة.. كالإصابة باضطراب أو أكثر من اضطراب من الاضطرابات النفسية والعقلية أيضًا.. بدءًا من الاكتئاب والقلق والتوتر.. وصولاً إلى انفصام الشخصية.. كما قد يكون هناك اضطرابات جسدية لها صلة وثيقة بتعرّض الشخص في طفولته إلى صدمات نفسية متكررة. جميعنا تربّينا وسط عائلات أحبتنا.. لكنها آذتنا أيضًا بقصد أو بغير قصد.. فما مشكلاتنا التي نعاني منها اليوم البسيطة، أو العميقة إلاّ نتيجة ألم تألمّناه ونحن أطفال.. ومرّت سنوات حياتنا.. والتراكم التدريجي للمشكلات العاطفية التي لم نتخلص منها نفسيًّا أوقعنا في القلق المزمن والخوف والحيرة.. والتعاسة.. والاكتئاب قد يظن البعض أن العنف والإساءة والأذية ما هي إلاّ مفردات للتعبير عن تربية كان للعصا وللضرب والصراخ والتعذيب دور فيها. وهذا مفهوم غير دقيق؛ لأن سوء المعاملة والإساءة لا ينحصران في هذه الصور، بل قد يعنيان أن الطفل لم يتلقَ كمية الحب والإرشاد والرعاية الضرورية لمساعدته على الشعور بأنه شخص صالح، وما يفعله جيّد وبناء.. وعلاقته بالآخرين صحية. إن معظمنا اليوم.. يصبح أبًا أو أمًا وهو يجهل واجباته تجاه تربية الأبناء الذين رزق بهم. وتزداد مساحة أخطاء الوالدين في التربية، وتضيق حسب وعيهما، والموقف الذي يقفانه في أعماقهما من أولادهما.. إذ إن هذا الموقف يحدد نوعية علاقتهما بهم وأسلوب تصرفهما تجاههم. فإذا كان هذا الموقف سليمًا.. كان للتربية حظ كبير من النجاح.. وأحد أهم هذه المواقف هو البعد عن النظر إلى أبنائنا وكأنهم مجرد وسائل لتعميم مقاصدنا، وتحقيق ما تصبو إليه ذاتنا. لأن ذلك يعني تجريدهم من فرادتهم كأشخاص، وتحويلهم إلى مجرّد أشياء نمتلكها. فكل أم منّا يعشعش في قرارة نفسها شعور بأن الابن الذي أنجبته هو ملك لها.. وكل أب.. يؤمن بأن من حقه فرض مفاهيمه وأحكامه المعيارية على ابنه. ويبررّ كل من الأب والأم ذلك بأنه منتهى الحب الذي يكنه لفلذة كبده.. ورغم أننا لا نشكك في صدق عاطفة الأمومة والأبوة.. إلاّ أن هذا النوع من الحب الأناني لطالما تأذّي منه أطفال ومراهقون وراشدون.. لأنه حب لا يتيح للابن أن ينمو وفق طبيعته الخاصة، وينطلق كشخصية مستقلة، ولا يوجد والدان إلاّ وقعا في هذا الخطأ، وهما يعتقدان عن حسن نية أنهما يعملان لصالح ولدهما، ولبنائه بناءً صحيحًا. لكن الحقيقة هي أن هذا الاعتقاد في التربية يؤدي إلى ضرب حاجات الابن ورغباته وخصائصه عرض الحائط.. وجعله مجرّد تكرار لصورة الوالدين.. وامتداد لهما.. وغالبًا ما تكون صورة مشوّهة.. ونسخة لا قيمة لها.. وللحديثة بقية. [email protected]