لا نكاد نتفق نحن السعوديين حد الإجماع على موقف أو فكرة أو شخص قدر اتفاقنا على الراحل معالي الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي رحمه الله، إذ لا يختلف اثنان على شخصيته الغنية بالمواهب، وعقليته الزاخرة بالتفرد، وثقافته السابقة لعصره والمتجاوزة الأمصار، ووطنيته العبقة بحس الانتماء الواقعي، وفكره المنفتح الخلاّق، ونزاهته مسؤولاً تبوأ مناصب عدة خلق من فشلها نجاحًا، ومن وجلها طمأنينة، ومن بهائها ونرجسيتها إنسانية تأبى على وصف راث. ولعل أهم ما يلفتني في شخصية أبي يارا رحمه الله قدرته على التوازن وضبط مشاعره بين واقعية تحتّمها المسؤولية، وذاتية تفرضها إنسانية المبدع، حتى لأكاد أجزم أنه من أوائل المسؤولين السعوديين الذين نجحوا في آداء مهامه الوظيفية بتجرد وإخلاص في حين حافظ على استقلالية المثقف ناثرًا في نتاجه جل ما يعتمل في نفس شاعر غيور، وكل ما يختلج في قلب سارد مثخن بمتاعب الإنسان وهموم الوطن. ولا أخالني أبالغ إن قلت إنه مؤسس المدرسة الإبداعية «الفرد جماعية» فكأنه حين يكتب أو يقرر جماعة في واحد، وكأنه حين يستشعر ويتألم واحد وسط جمع، ما يعني أنه نوعي في كمه، كمي في نوعه، مجدد في أصالته كما هو أصيل في حداثته، مغامر في تناول القضايا العامة والهموم دون تهور، ماهر في نقده الساخر لمن شاء بالكيفية التي بها يشاء. عزيز عليّ في موقف كهذا أن أسعد بالإحاطة بإنسان فيه من عمر بن عبدالعزيز عدالته، ومن المتنبي طموحه، ومن المعري فلسفته، ومن طه حسين بلاغته، ومن بيل جيتس انضباطه، ومن العرب فصاحتهم، ومن الغرب احترامهم للوقت، ومن الألمان اتقانهم لعملهم، ومن آدم أبيه الأول آدميته التي لم تذبل تحت طيات «البشوت» ولم تتعفن تحت صهيل البخور. موجع رثاؤك أيها العظيم، مثل ما هو موجع رحيلك الفاجع في زمن نحن في أمس الحاجة فيه إلى رجل بحجمك في ظل تحولات كبرى يمر بها الوطن لم يتجل منها ما يطمئننا على مستقبل بلدنا، إلا أني أعزي نفسي حين أستعيدك بوعي فأجدك ترحل بعد أن أديت الأمانة، وحملت مخلصًا المسؤولية على أزر أوشك أن يتقوس حنوًا علينا لا انحناء لمطامع عاجلة كنت من أزهدنا فيها وهي مهرولة خلفك، إلا أن الرائد لا يكذب أهله، ولا يخون عهده،ولا يخل بواجب مسؤوليته، وإن كان من بد للتسليم بواقع الفاجعة فإن من بشائر حسن الختام أن ترحل إلى الأكرم في شهر كريم، طبت حيًّا، وطابت ذكراك فينا، وصدق محمد مهدي الجواهري حين قال: يموت الخالدون بكل فج ويستعصي على الموت الخلود