عَرَفَت منظمة الشفافية الدولية الفساد بأنه «استخدام المنصب العام لتحقيق منفعة خاصة»، وبرغم أنه تعريف عام مختصر، إلا أنه لفرط دقته يمكن أن تبنى عليه مرافعات في علم القانون وتكتب فيه مجلدات في علم الأخلاق وتدون عنه سجلات في علم الاجتماع، توثقه جميعها بأنه جريمة ضد المواطن وجناية ضد الوطن. الفساد يحتاج كفاحا وليس تعريفا فهو يُعرَف بذاته، ويكاد مرتكبه أن يقول خذوني، هو كالذنب يحوك في صدر صاحبه ويكره أن يضطلع عليه الغير، إلا أن طمعه في المزيد يدفعه إلى مشاركة آثمين مثله. مناسبة الحديث تقرير ديوان المراقبة العامة عن إجمالي المبالغ المحصلة من مستحقات المال العام لخزينة الدولة في العام المالي 29-1430ه. الذي لم يتجاوز الملياري ريال فقط من أصل 12 مليارا واجبة التحصيل (عكاظ، 24 يوليو الجاري) وأرجع الديوان السبب إلى قلة عدد المدققين لمراجعة مصروفات الدولة. سبق وطالبت بزيادة عدد هؤلاء المدققين، غير أني لم أفهم الربط المباشر بين قلة عددهم وقلة التحصيل، إلا إذا كانوا هم من سيقوم بالتحصيل. دعوني بداية أشيد بالتقرير وفكرته الدورية، الإشادة مستحقة كذلك للتقارير التي تصدرها هيئة الرقابة والتحقيق، وننتظر مثيلاتها من جهات مراقبة المال العام ومحاربة الفساد، كجهاز الاستخبارات الإدارية وغيره، وأكرر هنا رجائي أن يضمهم جميعا تنظيم واحد تحت مظلة إدارية واحدة لتنسيق الجهود. إشادتي بتقرير الديوان لا تمنع إبداء بعض الملاحظات، هناك نقاط لم أفهم الإشارة إليها فيه، ولعل منكم من يفتيني فيها. أبدأ بعلاقة عدد المدققين بقلة التحصيل، المفترض أن لكل وزارة جهازا محاسبيا وجهازا رقابيا متصلا بالوزير مباشرة، بالإضافة إلى وجود ممثل مالي لوزارة المالية، والمعروف أن ميزانية كل وزارة، وبالخصوص باب المشاريع، موزعة في جداول للصرف حسب المنجز منها، ولا تجوز المناقلة بين بنودها أو منها إلى غيرها من أبواب الميزانية، والمفهوم أن موارد كل وزارة تحصل، لا حسب ورودها، بل طبقا لمواعيد استحقاقها، ثم ترحل إلى خزينة الدولة، وأن عمل المدقق هو مقابلة المفترض والمعروف والمفهوم في سجلات رسمية، ومطابقة الواقع بالمكتوب واكتشاف الخلل، إن وجد، لضمان عدم تكراره، فإن تكرر فلابد أن لدى الديوان لائحة تطبق. لكن أن يصل حجم الخلل إلى تحصيل حوالى 20% فقط من إجمالي المستحق فهذا أمر لا يفسره قلة عدد مدققين بقدر ما يشير إلى خلل منهجي في المفترض والمعروف والمفهوم، وفي عملية التحصيل ذاتها وفي آلية المراجعة المتبعة، وفي عمل الوزارة المعنية، لن يفيد معه جيش من المدققين. مليون واحد غير محصل يجب أن يكون للديوان موقف عملي آني منه، وأسئلة مثل لماذا وكيف ومن المسؤول وماذا تم؟، فما بالكم إذا بلغ عجز التحصيل عشرة مليارات، سنسأل الديوان حينها وماذا فعلت وماذا تقول لوائحك غير إصدار التقارير الدورية؟. يقول الديوان إن هدفه من التقارير المشتملة على نتائج مراجعة حسابات الأجهزة المشمولة بالرقابة، وهذا يعني أن هناك أجهزة غير مشمولة، إلا أن هذا ليس حديثنا اليوم، هدف التقرير تقويم أداء تلك الأجهزة ومعاونتها على تنفيذ مهامها وبلوغ أهدافها المرسومة بكفاءة وفعالية تحقيقا لحسن استخدام المال العام وترشيد إنفاقه خدمة للاقتصاد الوطني، وهذه لعمري خطبة عصماء عن مبادئ سامية يصبو إليها الجميع ولن يكون الديوان استثناء، لكن هل هذه من المهام الأساسية للديوان؟ لست ضد أن يقوم الديوان بتقويم أداء الوزارات أو حتى معاونتها في بلوغ أهدافها، إن كانت تحتاج إعانة، إلا أن الأهم هو معرفة هل حققت هذه الوزارات أهدافها من استخدام المال العام وهل قامت بتوريد كل ما تحصل عليه إلى الخزينة العامة، الديوان ليس من مهامه ترشيد الإنفاق، تلك مهمة جهات أخرى، مهمة الديوان أن يعرف أن الإنفاق تم بناء لما خطط ورسم له دون تقصير في التنفيذ أو خلل في الأداء أو تبديد للمال العام أو سرقته. أروع مثال لعمل الديوان ما نشرته المدينة قبل أمس، مطالبة البنك الزراعي بتحصيل 5 مليارات متأخرة، إضافة إلى رصد مخالفات مالية أخرى. تصوروا أن يكتشف الديوان، قبل البنك، عملية اختلاس كبيرة لاثنين من موظفي البنك وأن يطالب بفصلهما، قبل أن يفصلهما البنك، هذا وهو بنك يقوم على مبدأ محاسبي فما بالكم لو كانت وزارة ترتع فيها البيروقراطية؟. هل يُظهر هذا أن وزاراتنا، أو بعضها كي لا يغضب الرقيب، بحاجة لمن يعاونها في بلوغ أهدافها بكفاءة لا تبدو تملكها؟ وإلا ما مبرر التعاون لترشيد الإنفاق خدمة للاقتصاد الوطني؟، أليس هذا من أساسيات عمل أي وزارة وفي أبجديات خططها الرسمية المرفوعة والموافق عليها، وهل من مهام الديوان تقويم الأداء الحكومي، أليس هناك جهة ذات اختصاص؟ قبل أن أختتم أود أن أشيد أيضا بانتقاد هيئة الرقابة والتحقيق عدم تقيد وزارات التربية والمياه والشؤون البلدية والقروية بالرد على ما ينشر في وسائل الإعلام إيضاحا للحقيقة أمام القراء وإنفاذا لأمر سامي صدر بهذا الخصوص عام 1427ه. ويبدو أن اسم وزارة الصحة قد سقط سهوا، أما وزارة التجارة فيبدو أن ذكرها سقط مع سقوط جمعية حماية المستهلك التي نشأت ساقطة. تجاهل الرد على ما ينشر من نقد، علاوة على أنه عدم تقيد بأمر سام، دفع كثيرا من القراء إلى اتهام كتاب الصحف بأنهم ليسوا سوى أدوات تنفيس احتقان وتفريغ شحنات، وأن كل انتقاداتهم وهامش الحرية الذي يتوهمون ليس أكثر من كلام جرائد، وأن المخطئ قد يجد من يعاتبه ولكن ليس من يحاسبه.