دعونا هذا الأسبوع نقل شيئًا آخر.. بعيدًا عن همومنا واحتياجاتنا ونداءاتنا المتكررة إلى المؤسسات الحكومية المتنوعة.. في اتجاه آخر نقرر جميعًا أن نهرب إليه من إلحاح السؤال عن مخرّجات التعليم الضائعة، ومولدات الكهرباء البائدة، والأخطاء الطبية القاتلة، وحمّى الفتاوى الساذجة.. دعونا اللحظة نبتعد عن الوظيفة النفعية للخطاب صوب الغايات الإمتاعية الجمالية.. خاصة وأن تلك الغايات منفتحة على الزمن كله، والمواسم كلها صيفًا وشتاءً. دعوني أحلّق بكم صوب مسارب الجنس الأدبي الذي يحقق أكبر قدر ممكن من حالة الاستغراق الجمالي الفني.. وهو فن الرواية.. ولعلها فرصة رائعة أن نبدأ، أو نجدد، أو ننظم، علاقتنا بالقراءة، التي هي السبيل (الأضمن) للانعتاق من صرامة الحدود، ورتابة الواقع، وملل الخطابات الاستهلاكية المتكررة.. فمَن ألف الكتاب فقد تآلف مع ذاته خير ألفة، في أي زمن، وفوق أي أرض، في صيف أو شتاء، في إجازة أو عمل، داخل البلاد أو خارجها. نعود إلى أحد أهم تجلّيات القراءة المعاصرة/الرواية التي يصفها منظروها بأنها “صورة للحياة”، وبأنها “كشف لأقصى ما يطمح إليه الإنسان في حياته”، وبأنها “صياغة لغوية حوارية لحالات انسانية/لغوية تشي بعلاقات ديالكتيكية شتّى”. هي شخصيات وأفكار وأمكنة وأزمنة ودلالات.. والرواية هي في الحقيقة مزيج من كل هذا، ولست بصدد التعريف بالأسس التنظيرية لهذا الفن، ولا بالحديث عن تجلياته في الأنماط السردية الحديثة أو المعقدة، ولكنها رغبة معرفية في أخذكم معي لرحلة في غابات الحكاية والرواية، يعرف مسالكها بالضرورة المشتغلون على هذا الفن، ممّا لا يتّجه إليهم الخطاب.. إليكم -على سبيل المثال- هذه المشاهد الروائية التي لا تتكرر: 1- يرى ميلان كونديرا بأن الرواية التي لا تكشف عن جزء من الوجود هي رواية لا أخلاقية، فالرواية تفحص قبل كل شيء لغز الوجود، وهذا ما حققه فعلاً كونديرا في كشفه الدائم عن تحولات الظاهرة الإنسانية وعلاقة الوجود البشري بقضاياه المصيرية: الحب والحياة والموت، ثم صياغة كل ذلك بذات الوضوح والصدق اللذين تمت بهما تلك الاستجابة النقية الأولى للحظة كونية غامرة بالخصب والدهشه.. رواية (الهوية) مثلاً، التي أبدعت حقًّا في صياغة قلق الإنسان وهويته الخاصة، من خلال حكاية عاشقين، مشتغلة بحرفنة سردية على الكشف عن الجوانب الدفينة في الذات الانسانية وما يجول حولها من أصداء متحولة لإبقاء الإنسان عاريًا تمامًا في الفضاء الجمعي، ثم إن ذلك الكشف الخالص ينفتح بالضرورة على كل شيء في اللحظة ذاتها.. الحب والحياة معًا.. المعرفة والحب والجنس والصداقة والقدر.. 2- والكاتب اليوناني كازانتزاكس يبقى رهين تلك الآفاق العلوية المدهشة في آثاره التي لا تنسى (زوربا -تقرير إلى غريكو- القديس فرانسيس..) والتي تقود متلقيها دائمًا إلى عالم يبدو قريبًا وبعيدًا في اللحظة ذاتها، مفعم برائحة طين الأرض، حتى يجعلك تتنبه بحس فطري إلى أصغر الأشياء التي يمكن أن تمر بها صباح مساء دون أن تعبأ بحقها في التموضع الوجودي للأشياء.. ألم يكن هو ذاته القديس فرانسيس؟ الذي كان يتجول في أزقة مدينته، وعندما لم يرَ أحدًا يمتع ناظريه برؤية البدر المعلّق في كبد السماء اندفع إلى الكنيسة، وارتقى برجها، وراح يقرع الناقوس كأن كارثة قد وقعت! وعندما تجمّع الناس خائفين صاح بهم: “فقط.. انظروا إلى القمر”! وهذه الآفاق المغايرة تنطبق كذلك على شخصيات رواياته.. زوربا في روايته الهائلة (زوربا) التي تجدد معه الموجودات عذريتها وبراءتها الأولى، يتحدث عنه كازانتزاكس كشخصية حقيقية بعد ذلك في عمله (تقرير إلى غريكو)، “زوربا هو دليل الروح؛ لأنه كان يتمتع بكل ما يحتاج إليه الموجّه للخلاص: النظرة الأولية التي تصل إلى هدفها كالسهم.. التجدد كل صباح، الأمر الذي كان يمنح العذرية للعناصر اليومية الأبدية.. الهواء والبحر والنار والمرأة والخبز، كما كان يتمتع بيد واثقة وقلب طازج”. 3- باتريك زوسكيند.. لابد من استضافته على زمنكم الصيفي وغيره.. هل منكم مَن لم يقرأ روايته (العطر) والتي تتوهج فيها شخصية غرنوي.. كشاب معقد شاذ التصرفات لا يستجيب أبدًا للآخرين حوله، بل إنهم ينفرون منه حد العداء -حتى أمه- ولكن ثمة حاسة جسدية لديه هي حاسة الشم تبلغ مراحلها القصوى المتجاوزة للطبيعة الإنسانية، فيمتلك وحده بذلك الحس المستيقظ (عالم الرائحة) المنبثق عن الكون والإنسان والأشياء من حوله، ثم تقوده هذه الروائح التي يكتشفها وينتجها إلى علاقات غريبة تعيد تشكيل علاقته بالحياة من جديد، لتقوده إلى بحث مؤرق للأنثى المشتهاة عبقًا ليقرر بحبكة سردية محترفة قتل تلك الأنثى، وتجميع عبق جسدها في زجاجة عطرية كان مزجها بيديه أقصى ما يطمح إليه في حياته المليئة بالرفض والتشدد والاغتراب. 4- وعلى هذا النحو يمكن اعتبار شخصية (خاتم) في رواية (خاتم) لمبدعتنا رجاء عالم.. شخصية غارقة في التناقضات الاجتماعية، مشتتة بين جنسين، ذكر وأنثى، وبين عالمين متقابلين، عالم الظاهر الذي يمثله بيت العائلة الكبير في أعالي جبال مكةالمكرمة، وعالم الخفاء أو الحميم -بحسب الرواية- المفعم بحميا الأجساد وغرائزها الفطرية، ليقود ذلك الشتات النفسي (خاتم) إلى رحلة بحث مضنٍ وممتع عن هوية أخرى تجد فيها ذاتها الحقيقية، وجسدها الضائع بين جنسين، وسياقات اجتماعية متوترة، فتنغمر في فضاءات موسيقية كونية رحبة تعيد (لخاتم) اتزانها الشعوري، ورغبتها الجارفة في صياغة روحية جديدة لكل الأشياء والموجودات حولها. 5- وفي الإطار المحلي ذاته تتجلى شخصية (سميح الذاهل) في رواية (شرق الوادي) لتركي الحمد.. شخصية أسطورية عجيبة قادرة على النفاذ دائمًا إلى كل الفضاءات المستحيلة، وتجاوز أبدية الزمن وتأثيراته المادية وتراوحه بين الغياب والتجلّي، وبين التاريخ والواقع، وبين التصريح والتضمين، وهو كذلك الرمز الدال على بحث الإنسان المؤرق عن الحقائق المطلقة، أو لكأن (سميح الذاهل) هو الحقيقة المطلقة المتجسدة بسماتها الإنسانية في النسيج الروائي. 6- ولعشاق سياحة المكان.. سمرقند في رواية (سمرقند) لأمين معلوف.. ذلك المكان السردي الذي يمور بالفلسفة والفن والعشق، ويعج بالطقوس العجيبة.. عالم صاخب تتجاوب فيه الرغبات والكلمات وأغنيات الجسد وتراتيل الروح، يتماهى في لحظة سردية مع سحر شخصية (عمر الخيام)، المستقبلة الأولى لأطياف سمرقند الساحرة. وبعد.. إلى أين يتجه بي ذلك النثار مع انحسار مساحة البياض المتاح، سأحاول استغلال الحيز المتاح لذكر أسماء مزيد من الآثار المعرفية الممتعة.. كروايات (اسم الوردة) لأمبرتو إيكو، و(أغاغوك) للكاتب الإيرلندي إيف توريو، و(عالم صوفي) لجوستاين غاردر.. و(أمريكانلي) لصنع الله إبراهيم، وجل أعمال إبراهيم الكوني الغارقة في فتنة الصحارى المخضبة بالحنين.. [email protected]