كانت مؤشراً مهماً للغاية تلك المشاعر التي طافت بمنابر سُنية عديدة سجّلت تأبيناً لرحيل العلامة الكبير سماحة السيد محمد حسين فضل الله وكان ذلك على مستوى الوطن العربي ولربما سبقت بعض الأقلام والمنابر السُنية نظيرتها الشيعية وكانت أكثر جزماً ومبادرةً بتحديد أن الراحل فقيد للأمة الواحدة ولمشروع الإصلاح والاعتدال والتجديد المنهجي من بعض المراجع والمؤسسات الشيعية المعروفة بمواقفها من السيد فضل الله ، و يهمني هنا أن أثبت قضية مهمة في هذا التواصل والتواصي الذي عايشتُه شخصياً من كتلة ونخبة متعددة المناطق من شباب السعودية والخليج العربي السُنّة المتدينين على اختلاف توجهاتهم أبّنوا الإمام لكي نُسجّل هنا معنى نجاح كفاح السيد والتضحيات التي تعرض لها ووصولها إلى رسالة فكرية وقلبية كانت نتائج صدق دعوته وصراحته ونبذه لمفهوم استبدال العلاقات العامة بدلا من التصحيح والمصارحة مع احتفاظه بخصوصيته الشيعية ومرجعيته الدينية. وان هذا السبيل قد أعطى منعطفا مهماً يُدلل على قدرة الخطاب الإصلاحي والمصارحة في النفوذ إلى أوساط أهل السنة والتي اعتنى السيد فضل الله بمخاطبتهم بمفهوم الوحدة الجامعة بعد أن نقض ما ينقض هذه الوحدة في قضية الصراع المزعومة مع الشيخين ولم يتكلف تَقيّة دون إخفاء الإشكال أو التردد في إعلان الحقيقة، وهنا سيستدرك عليّ البعض بأنّ السيد -رحمه الله- قد أُضطُر لمواجهة حملة التكفير العاتية من بعض الأوساط في النجف وفي قم إلى بيان علمي يشير إلى معنى تراجعي في قضية المفاصلة التي تعتمدها روايات التزوير والتحريض كمادة رئيسة تُنسج عليها مرويات قصة العداء بين أهل السنة وأهل التشيع وكانت مادة رئيسية للفرقة بل والفتن ومدخل لتسييس قضايا الصراع من اتجاهات وحكومات شتى في التاريخ القديم والمعاصر، وأقول أنّ الأمر ليس كذلك بمعنى أنّ ما صدر من الإمام لم يصل إلى تراجع إنّما كان مضطراً في تقديري اثر وعيه بتجارب عديدة للإصلاحيين كمدرسة الخالصي وغيرهم سُحقت ومُنعت من التبليغ لو أنّه أعلن المواجهة مع فتوى التكفير المزدوجة، فيما كان سماحة السيد يرى أنّه في إطار زمني مهم لأداء رسالة الإصلاح ومعالجة ما نُحل من قضايا على مذهب التشيّع وأنّ منعه أو اندفاع الغوغاء للتقدم لإيذائه قد يوقف ذلك الامتداد خاصةً مع الرمزية التي أخذها استحقاقا في جمهور التنوير الشيعي المتلازم مع الدفق الروحي وتبني خيار المواجهة مع المشروع الصهيوني المركزي. ورغم خلافي مع أ. غسان بن جدو وتعاطفه المطلق مع المشروع الإيراني إلاّ أنني أسجل له شجاعته وتميّزه حين تحدّث في مراسم تشييع الإمام بكل صراحة وجرأة عن فتوى التكفير والمحاصرة والتضييق بعد طرح الإمام لقضايا التصحيح الكبرى وإعلان غسّان عن أنّها إحدى قضايا الإمام التاريخية في ذلك التوقيت ومن أمام مسجد الحسنين عبر قناة الجزيرة فإن ذلك الموقف منه كان يستحق الإشادة والتقدير، لكنني هنا اختلف معه في تفصيلين أُدرك تماماً حقيقتهما الأول ما قاله بأن الإمام لم يكن بينه وبين إيران خلاف وإنما امتنع عن قصدها بعد إعلان مرجعيته العربية وتفرغه للجمهور وهذا غير صحيح، فإن دوائر التكفير التي نَفّذت فتواها كانت ترتكز بصورة واضحة على الموقف الإيراني الرسمي خاصة بأن الحرب التي شُنّت على الإمام كانت بعضها من وكلاء المرجعيات الإيرانية المتداخلة كلياً مع النظام السياسي وكون السيد فضل الله يستمّر في الدفاع في بعض المواقف عن الجمهورية الإيرانية مقابل الحملات الإعلامية الأمريكية والإسرائيلية فهذا أمرٌ طبيعي فان ثوابت شخصيته لم تتغير كأحد رموز الحالة الشيعية في المنطقة وخاصة بأنّ المقابل للهجوم الإعلامي المعسكر الأمريكي. أمّا القضية الثانية في حديث أ. غسان بن جدو في التغطية الخاصة لتشييع السيد فضل الله فهو اعتباره بأن نعي السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله لبنان قاطع للشكوك حول موقف الحزب من حملات التكفير والاستباحة للسيد فضل الله فالأمر ليس كذلك ومع تبنّي الحزب لبرنامج التشييع الشامل وخطاب السيد نصر الله فقد كان ذلك لهدف يخدم الحزب ويُغطي على موقفه من التكفير، والجميع يُدرك أنّ رموزاً مؤثّرة وقاعدة مباشرة للحزب شاركت في التضييق على السيد فضل الله ويَعرف الجميع من هو المرجع المعتمد لها، وحتّى خطاب النعي إنما جاء لبعض التدارك من سمعة الحزب مع السيد فضل الله وخاصةً مواقفه المشرفة في رمزية صموده ودعمه للمقاومة في عدوان تموز فضلا عن إرشاده التاريخي الذي لم يُحترم إبّان حملة التكفير، ومن المؤسف للغاية أن قواعد حزب الله ورموزه الثقافية من أكثر الدوائر رفضا لقضايا الإصلاح والتقرب الحقيقي بين الطائفتين وفقا للمعيار التصحيحي وهذه هي الكارثة التي نتمنى أن يتجاوز الحزب معطياتها ويسعى للتخفيف من غلواء الثقافة الطائفية المعروفة لقاعدة الحزب بالتواصل مع منهجية السيد فضل الله وثقافته ورسالته الشرعية الإصلاحية لمذهب التشيع التي هي أهم استراتيجياً وفكريا من مراسم التشييع وألوف الكلمات العاطفية. وللحديث بقية.