أن يفتي شيخ ما بأية فتوى بعيدة عن القضايا المصيرية للإنسان المسلم المعاصر، فهذا أمر عادي في عصرنا الحالي. أمّا أن تحظى هذه الفتوى بصدى يفوق الصدى الذي حظيت به كارثة سيول جدة، أو مسلسل الجرائم الإسرائيلية في السنوات الأخيرة مجتمعة، فهذا هو الأمر الغريب الذي يصعب تفسيره! فتوى القارئ الشيخ عادل الكلباني الأخيرة التي تجوّز الغناء (بشروط) هي مثال حي على هذه الظاهرة ذات الدلالات الغريبة والخطيرة معًا. كل الأخبار التي وصلتني كانت تؤكد على حجم التفاعل المذهل الذي أبداه الجمهور مع هذه الفتوى. ولكي أتأكد من ذلك بنفسي فقد أجريتُ بحثًا عن الموضوع في موقع (غوغل) الإلكتروني، وكانت النتائج مفاجئة، بل مذهلة بكل المقاييس. لقد بلغ عدد النتائج التي سجلها مؤشر (غوغل) حول الموضوع صباح الثلاثاء الماضي (2,370,000) مليونين وثلاثمائة وسبعين ألف نتيجة. أمّا عدد صفحات البحث فقد بلغت ثماني وخمسين صفحة بالتمام والكمال! كل هذا الاهتمام الشعبي، والأصداء الجماهيرية الواسعة التي وجدت في الفتوى موضوعًا للخلاف، ومجالاً لتجديد السجال، ومناسبة لتأكيد وتجذير مناخ التعبئة الذي يسود ساحتنا الفكرية، هو مؤشر على مدى انفصال أصحاب الرأي في بلادنا عن نبض الشارع السعودي، والعربي، والإسلامي. وهذا الكلام ينطبق -في رأيي- على التيارين الأساسيين اللذين يتسيدان ساحتنا الثقافية.. بمعنى آخر فإن هذا الكلام ينطبق على من احتفى بالفتوى، وكذلك على من عارضها.. الفريقان -كما أرى- سواء من حيث عدم اهتمامهما بمستقبل ومصير وقضايا الناس الحيوية. إنهم يعيشون في أبراج عاجية يمارسون من فوقها لعبة شد الحبل في اختبار لا ينتهي للقوة. أمّا الجمهور الغارق في همومه المعيشية والمهدد من أقطاب الفساد في الداخل، والساعين عن تكريس الهيمنة في الخارج، فدوره يقتصر على متابعة اللعبة من بعيد، والتصفيق للفريق الذي يختاره. وبالمناسبة فإن حرية الاختيار بين الانتماء والتصفيق لأحد الطرفين أصبحت بفضل كتابات هؤلاء، هي الحرية الوحيدة المتاحة لهذا الجمهور البائس. لقد تمكنوا من تغييب الجمهور وتخديره، حتى أن الناس اهتمت بفتوى تحليل الغناء أكثر من فتوى تكفير أكثر من مائة مليون مسلم التي أصدرها نفس الشيخ قبل حين!