* يرى بعض المثقفين وغير المهتمين بالرياضة أن ما يشهده العالم في أيامنا هذه من حمى كرة قدم بسبب إقامة نهائيات كأس العالم في جنوب إفريقيا إنما هو جنون. فاثنان وثلاثون فريقاً ولكل فريق أكثر من عشرين لاعباً بين رئيسي واحتياط وطواقم تحكيم كل مباراة أربعة حكام بالاحتياط وأجهزة فنية تصل في أعداد أفرادها إلى العشرات وملايين المشاهدين في كل أركان الدنيا يتسمرون ليل نهار أمام شاشات التلفزيون ويتابعون الأخبار وما وراءها في الصحف والمجلات ليس سوى فضاوة ورواقة بال وابتعاد عن القضايا الجوهرية للبشرية بحسب فهم وإيمان بعض المثقفين وغير المهتمين بالرياضة. * هكذا رؤية قد تكون صائبة بحسب فهم أصحابها فالخلق كلهم ومنذ بدء الخليقة وحتى الانتهاء هم هكذا مختلفون في أمزجتهم وأهوائهم وطبائعهم ورؤاهم وهذه من معجزات الحياة. فسيادة النمطية الواحدة والرؤية الكربونية واستاتيكية الأشياء كلها ضد طبيعة الحياة المتجددة بل هي قتل وتدمير لمعنى التجديد والتغيير. * ومقابل هكذا رؤية يرى عشاق المستديرة كما يسمون كرة القدم أن أيامهم هذه أيام فرح وانشراح واستفادة قصوى من الوقت في مشاهدة تنافس رفيع في الأداء والأخلاقيات. بل إن كرة القدم في إيمانهم اليقيني أصبحت واحدة من آليات التقريب بين الشعوب وتوحيد الرؤية لبعضهم البعض. ففي ملاعب جنوب إفريقيا مثلاً لا يوجد فرق أو تمايز لأحد على آخر لا في اللون ولا اللغة ولا العرق ولا الخلفية الحياتية والمعرفية فالجميع سواسية تشدهم اللعبة الجميلة واللمسة الرايقة والهدف الأخاذ. * هكذا كلهم ومعهم الملايين الذين يتابعون المباريات في العالم كله لا يهمهم ما يقوله الساسة ولا تستفزهم دهاليز وألاعيب السياسات لهذه الدولة أو تلك بل كل همهم وقد أراحوا البال يجمعهم وقد تشكلوا في دوائر حول الشاشات وداخل الملاعب لمسات هذا اللاعب أو ذاك وغاية مناهم أن يسجل فريقهم المفضل هدفاً خرافياً ومن طراز رفيع وأن يتقدم خطوة وراء أخرى حتى ينال الكأس الذهبية. * وللحق أعتقد، وأنا من عشاق الرياضة وممارسيها منذ الصغر، أن هكذا تصوير هو ما يجب أن تكون عليه أحوال الناس ليس في أيام المباريات والمسابقات الرياضية بل وطوال أيام العام وعلى مدار الساعة. فالمباريات والمسابقات كرة قدم أو ألعاب قوى أو شبيهاتها لا تفرق بين الأهل والأحباب ولا تدفع إلى فقدان حبيب أو قريب ولا ترمل نساء وتيتم أطفالاً ولا تدمر مدنيات وتبيد حضارات بل تخلق أجواء فرح ونشوة داخل الملعب وخارجه وتوجد فضاءات إنسانية مشتركة في كل مقوماتها للمشاركين والمشجعين والمغرمين. * جنوب إفريقيا في أيامنا هذه ليست سوى كرنفال إنساني عالمي ومزايك بشري من كل أركان الدنيا تمتزج في فضاءاتها كل الألوان وكل السحن وكل اللغات وكل الثقافات وكل الديانات فتهتز للعبة حلوة وتطرب للمسة آسرة وتقفز لهدف وهو ما يجب أن يسود بين أبناء البشر بعيداً عن الآلام والحروب ونكباتها وبعيداً عن مكونات السياسة وفواجعها.