أكثر من 24 ساعة عشناها على وقع الأنباء القائلة بأن حارس الأقصى الشيخ رائد صلاح قد استشهد، فيما كان مراسل الجزيرة المتميز (الياس كرام) على وشك إعلان ذلك لولا أن المهنية تقتضي الحصول على تأكيد نهائي من الطرف الإسرائيلي. كانت قلوب الملايين قد بلغت الحناجر، فلهذا الرجل مكانة عند المسلمين لم يبلغها خلال المرحلة الأخيرة سوى الشيخ أحمد ياسين، إذ أنه رجل باع نفسه لله من دون تردد، ونذر نفسه لقضية الأقصى كرمز لقضية فلسطين مستخفا بتهديدات العدو. هو شوكة في حلق العدو، ولذلك كان القرار الواضح هو قتله على متن السفينة التركية، لكن الرصاصات التي خصصها القتلة للإجهاز عليه كانت من نصيب إبراهيم يلجين، ذلك المهندس التركي الذي يشبهه إلى حد ما، أقله من بعيد، وهذا بالضبط هو ما يفسر ارتباك الصهاينة طوال 24 ساعة، إذ كانوا موقنين بأنه هو القتيل، قبل أن يتبين أنه صاحبنا التركي. نجا الشيخ رائد صلاح من رصاصات القتلة هذه المرة، ولا نعرف ما سيحدث بعد ذلك، وإن توقعنا أن يأتي الخبر في كل لحظة، فمن وضع نفسه في جبهة الصدام المباشر مع دولة العدوان ينبغي أن يحسب هذا الحساب على الدوام. اليوم تتعزز لعبة المطاردة للمسجد الأقصى، ويبدو واضحا عزم الصهاينة على إتمام مخطط الهيكل بصرف النظر عن ردود الفعل الفلسطينية والعربية والإسلامية، ولأن وجود رجل من نوع رائد صلاح يشكل عقبة في وجوههم، فسيكون التخلص منه هدفا بحد ذاته، مع أن الأمانة تقتصي القول إنه ليس وحيدا، إذ يقف إلى جانبه في الحركة الإسلامية رجال بلا عدد يفدون الأقصى بأرواحهم.خلال النصف الثاني من التسعينات، التقيت الشيخ رائد صلاح في اسطنبول، بينما كان النزاع بينه وبين الشيخ عبد الله نمر درويش محتدما حول وجهة الحركة وبرنامجها؛ بين أن تذهب مثل الآخرين نحو المشاركة في انتخابات الكنيست، وبين أن ترفض ذلك. يومها جاء خبر ولادة ابنه البكر عمر، وشخصيا شجعته على الانفصال مؤكدا له أن كوادر الحركة ستنحاز إلى رؤيته، أولا لأنها الأقرب إلى ضميرهم، وثانيا لأن صاحبها الأحب إليهم، وهو ما كان بالفعل، إذ لم يعد للطرف الآخر سوى وجود هامشي، بينما انحازت إليه غالبية عناصر الحركة وجماهيرها. الشيخ رائد نموذج فريد للإنسان المخلص المؤمن بعدالة قضيته، ولذلك لم يكن غريبا أن يثير ذلك إعجاب تلك الشابة اليهودية المغربية، وصولا إلى إعلان إسلامها بعد نجاة الشيخ من معركة السفينة التركية. على خلفية مواقفه البطولية وبساطته ورجولته، تنحاز جماهير الأمة إلى الشيخ، ومعه إلى قضية المسجد الأقصى التي يعمل من أجلها ليل نهار، بينما يشعر الصهاينة بالغيظ والقهر من هذا الرجل الذي يعطل مخططاتهم الشيطانية للسيطرة على الحرم وبناء الهيكل. إلى جانب قضية الحرم القدسي، كان الشيخ عنوانا أساسيا من عناوين إعادة فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 48 إلى مربع قضيتهم، ومن ثم حفاظهم على هويتهم، ومقاومتهم لكل محاولات «الأسرلة»، بل ودعمهم لتيار المقاومة في شعبهم، الأمر الذي أثار ولا زال يثير حنق الصهاينة وحقدهم. يعلم الشيخ رائد أن مسيرة من هذا النوع لا بد أن تكون مدججة بالمخاطر، فقد كان نتاجها السجن لسنوات، وهو الآن برسم سجن آخر، كما أنه جاهز للشهادة في سبيل الله، ولا أظنه فرح بالرصاصات التي أخطأته، فالشهادة هي الخاتمة الأجمل بالنسبة إليه لولا أن تجنبها ضرورة في مواجهة العدو كي يواصل جهاده حتى الرمق الأخير. لا يساور الشيخ رائد صلاح أي شك في أن أعداءه سيرحلون عن هذه الأرض، سواء تم ذلك في حياته أم بعد مماته أو استشهاده، الأمر الذي يدركه القتلة أيضا، لكنهم يقاتلون من أجل تأجيل ذلك اليوم إلى أبعد مدىً ممكن.