إن عنوان المقال هو كناية عن الاستسلام التام، ورفع راية الخنوع، والبعد عن المقاومة، أو حتى المطالبة بالحق، وهو مرادف لقولنا: (أبعد عن الشر وغنّي له)، لكن مضمون العنوان أشد من هذا المثل في تصوير حالة اليأس والإحباط النفسي، ففي عصرنا الحالي الذي تضيع فيه الحقوق، أصبح على الإنسان أن يبتعد ليس عن الشر فقط، بل حتى عن الخير ودروبه، وعليه أن يكف عن المطالبة بأي حق، وغدا هذا القول هو نهج الكثيرين في الحياة. ولمّا كانت الأمثال هي وليدة التجارب، فإن عصرنا الحالي هو بيئة خصبة لتوليد الأمثال. ولا أعلم لماذا توقفت الأمثال عند عصور بعينها، فلم نعد نسمع أمثالاً جديدة. ولعل عنوان مقالي هذا إذا فهم مضمونه يذهب مثلاً، فقد تولد من التجارب المؤلمة التي يمر بها الإنسان، وأخذت تستشري في الواقع. في حين أنني لا أؤمن إيمانا كاملاً بالمعنى الذي يرمي إليه المثل، وإنما أردت أن أصور به الواقع الذي يعيشه الكثيرون في هذا العصر الذي انقلبت فيه المفاهيم، وتغيّرت القيم، وانتشر فيه الظلم، ولبس أثوابًا من الزيف، حتى أصبح الإنسان عاجزًا عن أخذ حقه ممّن يتوسم فيهم العدل والصلاح، حين يكتشف أنهم أشد الناس ظلمًا وعدوانًا، وأعظمهم اتبّاعًا للهوى، إلى جانب أن أخذ الحق أصبح بعيد المنال، صعب المسلك ما ينهك القوى، ويضيع الوقت، ويهلك الصحة، ويذهب المال. فالصدمة في أولئك الذين يلبسون مسوح التقوى، إضافة إلى صعوبة الإجراءات، إلى جانب تفشي الفساد الإداري كل ذلك ولّد عند أكثر الناس قناعات لزوم الحيط، لأنهم فقدوا الأمل في الحصول على حقوقهم، فلم يعد يعرف الإنسان الصالح من المنافق، فكلهم غدوا يلبسون أثواب الدين، وينعمون بالحكمة، ويتحدثون بلسان القرآن. لذا أصبح الكثيرون يفضلون السير بجانب الحيط، متعلقين بجداره، يصيبهم الهلع لو أنهم ابتعدوا عنه عددًا من السنتمترات. أمّا قطع الخيط، فهي عبارة تزيد من أبعاد صورة الإحباط التي وصل إليها الناس؛ حتى أنهم لم يكتفوا بلزوم الحيط، بل قطعوا كل خيوط الأمل والتفاؤل في قدرتهم على التعامل مع الآخرين، وفي حصولهم على حقوقهم. هذا اليأس، وهذا الإحباط، وهذا الاستسلام، هو ما بتُّ اسمعه من أفواه الكثيرين، حتى من أكبر المثقفين فإذا مررت بمشكلة، وأنت صاحب حق فيها، وأردت أن تطالب بحقك، وطفقت تستشير أولئك المثقفين، فإنك تصدم فيمن كنت تعتقد أنهم يمتلئون نشاطًا وحيوية، ونصرة للحق والعدل، ومنافحة عن الحقوق، كيف تغير منطقهم وانقلبت مفاهيمهم، فباتوا مستسلمين للظلم، وصاروا ينصحون بعدم تضييع الوقت في المطالبة بالحقوق، لأن المطالبة بالحق في عصرنا الحالي لا تورث الإنسان إلاّ حرق الأعصاب، ووجع الرأس، والإصابة بالجلطات، إلى غير ذلك من فنون الأمراض العصرية التي عمت وطمت، من هنا جاءت حكمتهم بلزوم الحيط، وقطع خيوط الأمل، شراء للصحة، وكسبًا للوقت، وحفاظًا على الجهد والمال. لكنهم بذلك غفلوا عن أن للظلم مرارة تفتك بالإنسان فتكًا، وللظفر بالحق حلاوة تشعر بالكينونة والكرامة. وعلى الرغم من منطق أولئك الناصحين الذين قد يركن إليه الكثيرون فإنني أعارض منطق الاستسلام للظلم، فطأطأة الرأس له، معناها مشاركتنا في انتشاره، وترك الساحة خالية (لمافيا) الظلم ليزدادوا افتراء في خلق الله، ويعيثوا في الأرض فسادًا. وأهيب بكل مظلوم أن يصم أذنيه عن النصائح اليائسة، ويتوكل على ربه، ويرفع إليه يديه واثقًا من نصره، ساعيًا لدى ولاة الأمر لإنصافه، فإذا لم ترفع اليهم المظالم كيف يعرفونها وكيف يرجعون الحقوق لأصحابها؟؟ وعليه ألاّ يقطع خيوط الأمل في الله وقدرته وقوته، وأن يجعل لسانه يلهج بقوله تعالى (إني مغلوب فانتصر).