باريس التي كانت توشك على خلع أثواب الشتاء كأن بها من جديد يعود شتاؤها ومطرها وبردها ليكون رفيقنا لنا في رحلتنا فيها والتي حملتنا السماء إليها رغم الظروف الجوية الصعبة التي شهدتها أوروبا وعطلت مطاراتها وألغت الكثير من الفعاليات التي حالت هذه الظروف دون وصول المشاركين إليها. كانت باريس موعدنا وملتقى الفائزين بجائزة خادم الحرمين الشريفين العالمية للترجمة.. وما أجمل أن تكتسب هذه الجائزة عالمية جديدة بحضورها في بيت العلم والثقافة “اليونسكو” وبحضور هذا العدد الكبير من المدعوين من كل صوب في العالم لحضور هذا الحفل الذي أستطيع أن أشهد وبكل صدق على نجاحه وتألقه والذي استضافته اليونسكو وحضره رئيس مجلس أمناء الجائزة الأمير عبدالعزيز بن عبدالله وقدمه أطفال بكل اللغات وكأنها رسالة إلى العالم تريد أن تخبره بأن هذه الجائزة حققت أن تكون قناة فاعلة للحوار العالمي. باريس كانت ملتقى المكرمين والفائزين والمهتمين بالترجمة.. كانت موعدنا مع فضاء جديد نعانق من خلاله أفكار وإبداع كل هؤلاء ونلتقي بمن كانت لهم بصمات واضحة لنقل الفكر والثقافات إلى أبعد من أوطانها.. باريس كانت موعدنا مع بهجة حملها لنا نجاح هذه الجائزة وعالميتها وكل هذا الكم من البشر والمفكرين الذين تجمعوا حولها في مدينة النور التي أوقدت الجائزة في سمائها نورًا جديدًا وفي قلوبنا بهجة لا تنسى. باريس كانت محطتي بعد روما والجزائر .. كان عناقي لها بعد ثلاثة أعوام حيث تعودت أن أزورها لمناسبة ثقافية فكرية ولكنها هذه المرة أخذتني إلى حضن “السين” في رحلة أبحرت بي إلى الماضي الذي كان يتربص بي على ضفتيه ويعانق قباب مبانيها ويطوف في سمائها التي لا يغادرها النور باكرًا وإذا رحلت شمسها أنارت أبراجها ومبانيها في منظر خلاب. كانت موعدي في باريس لأمر بكل ماضيها الذي أيقظته أسئلتي.. وروحي التي أبت إلا أن تمر على ما كنت قرأت فاستحضرت لحظة إبحاري في “السين” كل ما مضى.. كاتدرائية نوتردام.. متحف اللوفر.. الأكاديمية الفرنسية.. متحف أورسيه الذي كان من قبل محطة للقطارات.. ثم جزيرة القديس لويس.. مستشفى الله العام.. باريس تحرضك أن توقظ كائناتها وماضيها وأرواح من غفوا في معالمها التي بقيت شاهدة على ما مضى وعلى عصور ذهبية وأخرى معتمة شهدتها هذه المدينة الساحرة التي حافظت على طرازها ومعالمها بكل ما أوتي أهلها من قوة العزم وبخاصة في الحرب العالمية وقد غطوا المباني بأكياس الرمل لحمايتها من القذائف فصمدت المباني وبقيت شاهدًا على التاريخ. القصر الذي تحوّل إلى سجن في القرن الخامس عشر ثم الآن إلى محكمة العدل في فرنسا.. هو الآخر تلمحه على ضفة “السين” وأنت تقطع هذا النهر الذي كان في السابق إذا فاض غمر القصر ومات السجناء الذين كانوا يسجنون في الطوابق تحت الأرض غرقًا. ما أجمل جزيرة المدينة.. المباني بأنوارها بنوافذها العالية.. بكل الحكايا التي تخرج من نوافذها وتداهمك على أعتابها.. فإذا وصل بك النهر إلى جسر ماري.. فألق بأمانيك هناك.. لأنها كما يقال تصافح السماء التي تستجيب لأمنياتك وتلبي ما تسر للجسر القديم به.. ساحرة هي باريس وأحياؤها.. ساحرة هي خيالاتك التي توقظ كل من مر هناك.. وتكتب لك عهدًا جديدًا مع المدينة التي تعدها بعودتك.. باريس موعدنا وموعد الثقافة.. وموعد النور.. موعدك مع حياة تشتهي أن تكون في رحابها لتجمعك بك وبأفكارك التي تنساب كالنور تصفق كالعصافير وتحلق كالفراشات.