إنّ مواجهة الفساد من أي نوع كان، لا يكون مجتثًا له إلاّ بمعاقبة المفسدين أيًّا كانوا، ولكن هذه العقوبة لن تكون إلاّ بعد محاكمة عادلة، يتاح فيها للمتهم حقوقه، فلا تنتزع منه الاعترافات عبر تعذيب جسدي أو معنوي يكرهه على أن يعترف بما يطلب منه الاعتراف به، ولو لم يفعله، وأي شبهة من هذا اللون تجعل اقراره باطلاً، ويتاح له أن يدافع عن نفسه عبر محامٍ يستطيع أن يواجه أساليب المحققين في انتزاع الاعترافات من المتهمين، ثم يترافع عنه في مرحلة عرضه على القضاء، ثم إذا عرض على القضاء. وثبت عليه ما اتهم به، وأصبح حينئذٍ جانيًا فلا يزيد عليه أحد العقوبة بسبه أو شتمه، أو ملاحقته بتشهير ما لم ينص الحكم على ذلك، لغاية ردع غيره عن أن يفعل مثل فعله. وأمّا في مرحلة الاتهام فلا يصح أبدًا أن يقوم أحد بالتشنيع عليه ويمنع الإعلام مع الحكم عليه بأحكام فجة قبل صدور الحكم، فقد تثبت براءته بعد محاكمته، ويكون مثل هذا قد شوّه سمعته، ولهذا يمنع في شتى بقاع الدنيا نشر شيء يسيء إلى سمعة المتهمين في فترة القبض والتحقيق معهم، بل وأثناء إجراءات المحاكمة وإذا كان الفساد ضرره يعم، فإن محاكمة المتهمين به علنًا تتيح للمجتمع الفرصة أن يطلعوا على مجريات المحاكمة، ويقتنعوا بالأحكام الصادرة عند من أدينوا به، ويتيح للمتهمين الفرصة أيضًا للدفاع عن أنفسهم بصورة أجدى. وهي من حقوقهم الأصلية التي تدفع عنهم الظلم، وهي حقوق نص عليها نظام الإجراءات الجزائية في مواده الأساسية، وبالعودة إليه يتبين أن تطبيقه بأمانة ونزاهة يلغي كل ظلم قد يتصور وقوعه على المتهمين في شتى القضايا، خاصة في مرحلتي القبض والتحقيق اللازمين للادعاء عليهم بالحق العام والخاص معًا خاصة في الجرائم الكبرى، والتي تستوجب دومًا محاكمة عادلة فقد نص النظام في المادة الثانية على خطر إيذاء المقبوض عليه جسديًا أو معنويًا، كما حظر التعذيب أو المعاملة المهينة للكرامة. وما أُشيع عن أن بعض المتهمين في قضايا الفساد المتسبب في كارثة جدة قد تعرضوا لشيء من هذا، فالتحقيق فيه واجب، حتى إن كان قد حدث فعلاً حوسب مَن تسبب فيه، ومنع تكراره في هذه القضايا وكل القضايا الأخرى. كما أن المادة الثالثة منه تنص على عدم توقيع عقوبة جزائية على شخص إلاّ بعد إدانته. وبناء على حكم نهائي بعد محاكمة تجري وفقًا للوجه الشرعي. فالمتحدثون عن المتهمين بالسوء، ولم يصدر عليهم حكم يجب أن يحاسبوا، ولا يسمح لهم بتوجيه التهم إليهم صراحة خارج نطاق التحقيق، ومن ثم المحاكمة العادلة، وكل مَن اتهمهم في هذه المرحلة يجب أن يحاسب. فالعدل تكلفته ليست باليسيرة، ولعل من أيسرها أن تضبط الألسنة والأقلام عن توجيه التهم إلى الخلق قبل أن تثبت عليهم بحكم نهائي، فالأعراض يجب صونها عن أن تلوكها الألسنة لمجرد الرغبة في الحديث. بل إن من محاسن ديننا الحنيف أن الغيبة وهي من الكبائر تعني ذكر الناس بما يكرهون أن يذكر عنهم، وهو من عيوبهم التي فيهم، فإن لم تكن فيهم كان بهتانًا وهو الاعظم أثمًا وعقوبة. كما ان المادة الرابعة والعشرين من النظام تعطي للمتهم حق الاستعانة بوكيل أو محامٍ لحضور التحقيق والمحاكمة، وتطالب المحقق ألاّ يعزل المتهم عن محاميه، أثناء التحقيق. وظني أن نظام الإجراءات الجزائية في كل ما يخص القبض والتحقيق لو طبّق تطبيقًا صحيحًا وأمينًا لم تعد لأحد شكوى إذا تعرض لمثل هذا، لانه سيجد الانصاف في جميع مراحل التحقيق، ولن يستبقيه أحد في التوقيف دون تحقيق، ومن ثم دون محاكمة، فقد حددت للمحقق بموجب النظام بعد أن يبلغ بالقبض على المتهم أربعًا وعشرين ساعة ليبدأ التحقيق. فإذا مضت هذه المدة وجب على مأمور التحقيق أن يبلغ رئيس الدائرة التي يتبعها المحقق، وعلى الدائرة أن تبادر باستجواب المتهم حالاً أو تأمر بإخلاء سبيله. وينتهي التوقيف خلال خمسة أيام إلاّ اذا رأى المحقق تجديد المدة، فيقوم قبل انقضائها بعرض الأوراق على رئيس فرع هيئة التحقيق والادّعاء العام في المنطقة ليصدر أمرًا بتمديد مدة أو مدد متعاقبة على ألاّ تزيد في مجموعها على أربعين يومًا من تاريخ القبض عليه، أو يتم الإفراج عنه. وفي الحالات التي تتطلب التوقيف لمدة أطول، يرفع الأمر إلى رئيس هيئة التحقيق والادّعاء العام ليصدر أمره بالتمديد لمدة أو مدد متعاقبة لا تزيد أي منها على ثلاثين يومًا، ولا يزيد مجموعها على ستة أشهر. وتحقيق لا ينتهي بالاتّهام والإحالة إلى محكمة في ستة أشهر هو تحقيق متباطئ عمدًا لاستبقاء المقبوض عليه رهن التوقيف. وهو إلغاء لحريته يجب أن يُحاسب مَن تسبب فيه. وحينما نتحدث عن هذا وأول قضية فساد كبرى في البلاد تُحال إلى هيئة التحقيق والادّعاء العام فإنا نتطلع أن تكون نموذجًا يحتذى في محاسبة من يتسبب في أذى للوطن والمواطن بعدل وإنصاف لا تجاوز فيه على حقوقه. ولا تفريط في حق الوطن. فهل نحن فاعلون؟ هو ما أرجو والله ولي التوفيق.