في خصومتك للآخرين تكتشف طبائع البشر، ودخائل النفوس؛ لأن الخصومة نار لاهبة تكشف معادن الناس وتميز بين اللؤلؤة والصدفة، كما تكشف النار الجوهر وتنفي خبث الحديد. الناس في حالة التوافق الفكري والاجتماعي لا يعرفون من أخلاق المتعاملين معهم سوى ما نعرفه من قمة جبل الجليد العائم في المحيط. أما حين تتقاطع المصالح وتتنابذ الأفكار والمواقف تتكشف الحقائق، وتسقط الأقنعة، وتظهر الحقائق كالشمس في رابعة النهار. لهذا تعدّ الأزمات محكًّا لفهم حقيقة الآخرين، والحكم عليهم. والناجحون في هذا الامتحان أندر من الكبريت الأحمر. ومجتمعنا اليوم في سياق تحولاته يعيش تدافعا فكريا، يورث خصومات بين الأشخاص والاتجاهات الفكرية المتعددة. وكثير من التدافع الفكري الجاري يفتقد لشرف الخصومة، وأبجديات الحوار الحضاري الخلاق. فهو حوار يعنى بالغلبة أكثر من عنايته بالبحث عن الحقيقة. ولهذا شاعت ثقافة القصف العشوائي، وتحول كثير من مثقفينا إلى مدفع يطلق الأعيرة النارية الطائشة في كل اتجاه. كتاب وقنوات فضائية تجتهد وفق رؤية حديّة في جلد الذات، وإشاعة ثقافة العجز، وتجنيد كلّ شيء ضد قيم التدين في المجتمع، وتمارس فجورا في الخصومة من خلال اتهام أصحاب الاتجاهات الفكرية المخالفة بالرجعية والتخلف ومحاربة التطور وبث ثقافة الكراهية. وفي الضفة الأخرى كتاب على شبكة المعلومات العالمية وقنوات فضائية تمارس نفس الأسلوب فتحمّل المخالف لها تبعات هزائم الأمة، ولا ترى فيه إلا متسولا على أبواب السفارات الأجنبية، يفكر بالنيابة عن الأعداء، ويقوم بدور أبي رغال وابن العلقمي، ولكل أنصار ومريدون، وكل حزب بما لديهم فرحون. إن تأمل بعض المقالات، وسماع كثير من الحوارات، وقراءة عدد من الروايات والإصدارات الفكرية الهشة، ومتابعة تحليلات تفتقد إلى أدنى أبجديات القراءة الموضوعية يؤكد لنا عمق المشكلة، وحبنا في التنابذ والتنافي وإشعال حرب أهلية بلا قضية. إننا نفتقد في حواراتنا اليوم للبيئة الآمنة، والحضانة الاجتماعية السويّة، فتحولت لدينا بعض منابر المساجد وأعمدة الصحف، وقنوات الفضاء ومنتديات الإنترنت إلى خنادق وبنادق ومقاصل لا ترقب في مؤمن إلاّ ولا ذمّة. لقد كرم الله ابن آدم، وحصر مقاصد شريعته في حفظ كرامته، وتقدير إنسانيته، ويأتي اليوم من أبناء جلدتنا من يجعل كل هذه المقاصد خلف ظهره بحجة الذب عن حياض الدين والوطن، ومحاربة الإرهاب والتطرف، وهو لا يعلم أنه بفعله هذا يهيئ للإرهاب، ويؤسس له قابلية، ولو علم لكبح جماح نفسه، وقادها بزمام الرحمة وأحسن الظن بالآخرين الذين يختلفون معه، وحمل خلافهم معه على ما يحفظ لهم كرامتهم ووطنيتهم وبحثهم عن الحق. إن الإيمان بسنة الاختلاف، ومحبة الحق، وعدم ادعاء امتلاك الحقيقة، والثقة بالآخرين وإحسان الظن بهم واجب ديني وسلوك حضاري لا ينبغي أن نختلف حوله لنكون مسلمين ومواطنين، ومثقفين نقف صفا واحدا ضد ثقافة القصف العشوائي، لئلا تقول كلمة لأحدنا: دعني. [email protected]