في نفس هذا المكان عقب الانتخابات التشريعية العراقية قلت إن النظام كان رائعًا، ولكن لا يوجد دجاج في صناديق الاقتراع، وبعد قرابة شهرين على إعلان النتائج مازال العراق يفتش عن الدجاج في الصناديق، أو بالأحرى عن تفعيل نتائج الانتخابات بالبدء في مشاورات تشكيل حكومة ستكون ائتلافية بالضرورة، حيث لم يحقق أي من الكتل المتنافسة فوزًا حاسمًا يتيح له تشكيل الحكومة منفردًا. ما حدث في العراق قبل شهرين حدث في بريطانيا قبل أيام، حيث لم يتمكن أي من الأحزاب البريطانية المتنافسة من الفوز بأغلبية (النصف زائد واحد) التي تسمح له بتشكيل الحكومة منفردًا، ومع ذلك فلم تمض سوى 48 ساعة حتى كان الحزبان المتنافران فكريًّا وسياسيًّا ينجزان اتفاقًا على تشكيل حكومة ائتلافية برئاسة ديفيد كاميرون زعيم المحافظين، الذي حصل حزبه على العدد الأكبر من مقاعد مجلس العموم البريطاني. بنفس المنطق الذي صاغ الحل في بريطانيا كان ينبغي أن تسير الأمور في العراق، أي أن يتم تكليف اياد علاوي زعيم الكتلة الفائزة بالعدد الأكبر من مقاعد البرلمان العراقي ببدء مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية خلال مدة زمنية محددة (أسبوعان في الحالة الإسرائيلية)، لكنّ شيئًا من هذا لم يحدث، فقد احتج رئيس الحكومة المنتهية ولايته نوري المالكي بأن ثمة تلاعبًا قد حدث، وبناء على طلبه جرى إعادة فرز الأصوات يدويًّا في بغداد، وانتهى الفرز اليدوي إلى تأكيد نفس النتائج السابقة مستبعدًا أي شبهة للتلاعب أو التزوير، ومع ذلك فمازال المالكي الذي يترأس حكومة تسيير أعمال لا تخضع لرقابة البرلمان يصر على أن تكون الحكومة برئاسته بغض النظر عن نتائج الانتخابات. المشهد العراقي الراهن وفي خلفيته مشهد الانتخابات البريطانية، يثير تساؤلاً ملحًّا حول ما اذا كانت الجينات العربية لا تتقبل الفكرة الديموقراطية، أو أن الجهاز المناعي العربي يتعامل مع ما تفرزه صناديق الاقتراع الحقيقية باعتبارها أجسام دخيلة يرفض دمجها في الجسد العربي العتيد؟! لقد أصبح لدى العراق صناديق اقتراع لكن مفاتيح الصناديق في الديموقراطيات الحقيقية يحملها الرأي العام، الذي يرفض التلاعب بإرادته، والاستهانة بصوته، ويصر على تفعيل النتائج مهما كانت، وكما نعرف فإن صناعة الرأي العام لا تتم بمجرد قرار، أنها حصاد سنوات طويلة من التربية والتعليم والتثقيف والممارسة الرشيدة النزيهة.. هل معنى هذا أن على العراق أن ينتظر لسنوات حتى تصبح لديه حكومة؟! هذا أخشى ما أخشاه.