تواجه أفغانستان مستقبلاً مجهولاً نتيجة للتعقيدات في الوضع الأفغاني والمطامع المتعددة لدول الجوار، القريبة والبعيدة .. فالرئيس الأميركي، باراك أوباما، أعلن أنه ينوي بدء سحب جنوده من أفغانستان مع حلول شهر يوليو من العام القادم ( 2011 )، وتتزايد الضغوط على الرئيس الأفغاني، حامد كرزاي، لتحسين أداء حكومته، ومحاربة الفساد المتفشى بالبلاد، وتأتي هذه الضغوط من أميركا وباقي دول الناتو التي تتواجد قواتها في البلاد مما دفع بكرزاي، الرئيس الأفغاني، الى أن يعلن في لحظة ضيق مؤخراً أنه قد يضطر إلى الالتحاق بطالبان. خلال شهر ديسمبر من العام الماضي عقد مؤتمر في كابول، أستمر لثلاثة أيام، للبحث في كيفية مكافحة الفساد في البلاد، وحضره ممثلو الدول التي تساعد حكومة كرزاي على السيطرة على أفغانستان .. وأفتتح الرئيس الأفغاني المؤتمر معلناً أنه يتعاطف مع المعاناة التي يلاقيها المواطن في تعاملاته مع الدولة وهاجم الموظفين الذين : « يصيبهم الثراء بعد العمل في الحكومة لسنة وسنتين، ونجدهم يسارعون إلى شراء منازل لهم في دبي « .. ثم التفت إلى الحضور وأشار إلى محافظ كابول، الذي كان يجلس في الصفوف الأمامية، قائلاً : « لقد حكم على هذا الرجل بالسجن أربع سنوات بتهمة الفساد .. أني أعرف المحافظ، فهو رجل نظيف أعرفه شخصياً « .. وشن حملة على الأجهزة التي تنفذ برنامج محاربة الفساد ( كان قد أطلق سراح المحافظ بكفالة بعد أن استأنف الحكم الصادر ضده). ومثل هذه المواقف من الرئيس الأفغاني تزعج الدول التي تدعم نظامه، فهو اتهمها والمنظمات الإنسانية والشركات التجارية العاملة في البلاد بإنها أساس هذا الفساد، كما قال إن أميركا ورفقاءها من الدول المساندة له هي التي زورت الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ثم اتهمته بتزويرها .. إلا أن الغضب الذي عبرت عنه أميركا والدول الأوروبية لم يؤد إلى وقف مساندتها لحكومته، وتجد نفسها في النهاية مستسلمة لمواقفه وتوجهاته إذ لا يبدو أن هناك، في الوقت الحاضر، قيادات أو أحزاب سياسية يمكن أن يسعى المنتقدون لكرزاي إلى دعمها كبديل محتمل له. ويطمح الأميركيون في أن يتخلى بعض رجال طالبان عن القتال ويسعوا إلى ذلك عبر إغرائهم بالمال وحوافز أخرى، وحددوا هدفاً لهم بتشجيع ما بين عشرين وخمسة وثلاثين ألف مقاتل على الإنفصال عن الحركة .. وفي مؤتمر عقد أواخر شهر يناير الماضي بلندن أستهدف البحث في سبل دعم أفغانستان وحضره وزراء خارجية وممثلو حوالى ستين دولة ( بالإضافة إلى الرئيس الأفغاني حامد كرزاي) جرى تخصيص مبلغ خمسمائة مليون دولار لهذا الغرض .. بينما يتساءل مقاتلو طالبان عن الفائدة المرجوة من الانفصال عن الحركة فيما تستعد القوات الأجنبية للرحيل عن البلاد، مما سيوفر لهم الفرصة لكسب الجائزة الكبرى بالاستيلاء على السلطة بكاملها. إلا أن الأمور أكثر تعقيداً مما تبدو عليه، فالسلاح بيد الجميع، وليس طالبان فحسب، وتتكون البلاد من أعراق مختلفة، أبرزها البشتون والطاجيك إلى جانب أعراق قبلية صغيرة مثل الأوزبك والفارسوان والأيماق وغيرهم .. وهناك مصالح دولية متشابكة تسعى لكسب هذه المجموعة أو تلك من هذه القبائل المقاتلة والمعروف عنها شدة البأس .. وإذا كانت أميركا قد نجحت مع حكومة كرزاي في تحويل كابول إلى عاصمة آمنة، إلى حد كبير، وزيادة عدد سكانها من حوالي مليون شخص خلال عهد طالبان إلى حوالى خمسة ملايين، إلا أن أنحاء عديدة في البلاد لازالت تعاني من الإضطراب وعدم استتباب الأمن .. كما أن تحويل اللغة ( الداريه ) وهي لهجة من اللهجات الفارسية يتكلمها الطاجيك، إلى اللغة الرسمية للدولة وتجاهل لغة البشتون، الذين يشكلون أغلبية السكان، وجعل لغتهم ( البشتو ) مادة من مواد اللغات التي تدرس في الجامعة إلى جانب لغات أجنبية مثل العربية والإنكليزية، لا يعطي دلالات على أن من السهل التقاء الأعراق على موقف واحد من حكم البلاد بعد رحيل الأجنبي عنها. وتحيط بأفغانستان شمالاً الجمهوريات الإسلامية التي استقلت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وجنوباً وشرقاً باكستان وغرباً أيران وتمتد الحدود الصينية معها لحوالى سبعين كيلو متراً في الشرق .. مما يجعل جميع هذه الدول معنية بمصير أفغانستان بعد رحيل القوات الأجنبية منها، بالإضافة إلى اهتمام الهند وروسيا وأميركا التي ترغب في أن يكون لها نفوذ في البلاد. لذا فإن الأميركيين الذين يبدو أنهم عاقدو العزم على الانسحاب خلال العام القادم، لا يتوفر لهم الوقت الكافي لتحقيق الاستقرار في البلاد .. علماً بأنهم سعوا خلال السنين الماضية إلى تجاهل أهمية دور باكستان في تحقيق هذا الاستقرار، وساعدوا على دخول الهند بقوة إلى الساحة الأفغانية مما ساهم في زيادة القلق الباكستاني .. ومالم يتمكن الأميركيون والرئيس حامد كرزاي من التعاون مع باكستان فإنه لن يتحقق استقرار حقيقي في البلاد، خاصة وأن أعداداً كبيرة من اللاجئين الأفغان لازالوا يعيشون في باكستان إضافة إلى أن القبائل البشتونية التي تعتمد عليها طالبان هي قبائل مشتركة فيما بين البلدين، باكستانوأفغانستان، ومن الصعب السيطرة عليها مالم تكن هذه القبائل جزءاً مهماً من تركيبة الدولة الأفغانية .. أما عداً ذلك فلن يؤدي إلا إلى المزيد من الاضطراب والحروب القبلية الأفغانية بعد خروج القوات الأجنبية.