ما زالت أطالس الجغرافيا تحتفظ بصورة «متماسكة» لدول العالم، وبحدود تبدو مرسومة بدقّة وعناية منضبطة، تقاسمها ثلاثة ألوان أو تزيد، تاركة للبحر «الأزرق» بدرجاته، ولليابسة بجبالها وصحرائها المساحة الشاسعة بين «الأصفر» و«البني» بتفاوت تمليه التضاريس، بينما يأتي «الأخضر» كثيفًا في أوروبا، وخجولاً في غيرها.. هذه الصورة ما عادت ماثلة في أرض الواقع الذي يشير باتجاه تفتيت لم يستثنِ «دولة عظمى» مثل الاتحاد السوفيتي الذي أسفر تشظيه عن «دويلات» تبرز على سطح الأحداث «الساخنة» عادة، لتفتح مجال التأمل في صفحات التاريخ لقدرة الاتحاد السوفيتي على الاحتفاظ بهذه «الفسيفساء» تحت مظلة واحدة طوال هذه السنوات المديدة. قرغيزستان اسم طفا على سطح الساحة بحدث بات «طبيعيًّا» وغير مستغرب في دول العالم الثالث، ثورة على حكم، وخلع رئيس، وصراع حول تسمية السلطة الجديدة.. لتعيد الدورة نفسها بصورة أو أخرى مع تقادم السنوات.. إذ لا جديد يذكر في «قرغيزستان»؛ غير أن الرئيس القرغيزي المخلوع كرمان بك باكييف لايزال يماطل ويسوّف في أمر تقديم استقالته، برغم أن جميع مفاصل سلطته ذهبت إلى الحكومة المؤقتة برئاسة روزا أوتونباييفا، وبقيت سلامته الشخصية رهنًا بسرعة استجابته لتقديم «الاستقالة»، ومن ثمّ اختيار مكان «ما» يستوعب بقيّة أيّام حياته.. ومع قناعتي الشخصية أنّ «حبّ السلطة» أمر يزداد تضخمًا، ويحتلّ مساحة أكبر من سلوك الفرد كلّما تقادمت به الأيّام، وتوالت عليه السنوات، بما يجعل مجرد «التنازل» عن السلطة طواعية أمرًا قاسيًا عليه، يفعله «الحاكم» عن غير رضا نفسي؛ فإنّ أمر «خلعه» بسلطان القوّة سيكون أكثر مضاضة، وأشدّ وقعًا، بما يحفّز عنده كلّ أسباب التمسّك بها، مستعينًا بما يملك من قوّة لن تعيده إلى سابق عهده، ولكنّها قد تمنحه «شرف» الدفاع عن سلطته السليبة، مجافيًا المآلات التي يحفظ التاريخ خيبة أصحابها في أكثر العبارات حزنًا وقسوةً «لا تبكِ كالنّساء على حكم لم تحافظ عليه كالرجال». إذًا ف«كرمان» آثر أن يقاتل من أجل «سلطته»، وهو أمر يملك حقّ تقديره، لكن في المقابل يبدو العرض الذي قدمته إليه الرئيسة الجديدة «روزا» في غاية اللطف والرقة؛ «أن يختار منفاه بنفسه»، ومن المرجح أن يكون سقف أحلام «كرمان» عاليًا لو أنّه قبل عرض روزا، بحيث من الطبيعي أن يكون مسرح نظره جائلاً بين أمريكا وأوروبا دون غيرهما من قارات العالم.. مثل هذه الخيارات «الوردية» لم تزل تزيد الدكتاتورية تمدّدًا، وتمنح «المتسلّطين» ضوءًا أخضر لمزيد من التنكيل، فالنهاية «عادة» موت طبيعي، أو منفى أكثر راحة من أوطانهم القلقة، أمّا «القصاص» في مثل هذه البلدان فهو إمّا في سبات عميق، أو «أهوج» يجتث دون قانون.