أبا عمرو: لا أَسْكَتَ الله لك حِسّاً، ولا حرمنا من الكلمة الطيبة، كلمة الحق التي كنت وما تزال وستبقى إن شاء الله تعالى حارسها وأمينها بشجاعتك التي طالما تعلمنا منها وبسالتك في المواقف التي يندر مثيلها في يوم الناس هذا. سيبقى فلكك الفكري الكبير يدور في عالم العطاء الذي لا يعرف غاية يقف عندها ولا نهاية لا يجد ازدياداً بعدها كما يقول الجرجاني، لنسْبَحَ في فضاءات هذا الفلك ونقتبس من نوره ما شاء الله لنا أن نقتبس، ذلك أنه نور مستمد من كتاب الله ومشكاة النبوة اللذين لا تسير إلا على هديهما مهما كلفك ذلك من عَنَت، وما حدت يوماً عن دربهما مع من حاروا مهما كانت المغريات والصارفات. مَنّ الله عليك يا صلاح الدين بأن جعل لك من اسمك عظيم النصيب، فما سعيت يوماً الا الى صلاح الدين وبذلت في سبيل ذلك الكثير وضحيت في سبيل ذلك بالكثير. اغتر الكثير من الناس بما يسمى بالسلام في قضية المسلمين الاولى، وكنت ضمن القليل من الناس الذين عرفوا حقيقة هذا السلام، فلم تروج له في يوم قط، ولطالما عرّفتَ قراءك بحقيقة هذا العدو الذي لم يسعَ يوماً ولن يسعى لشيء ذي صلة بالسلام وبقيت كلماتك شوكة في حلق الغاصبين وستبقى الى يوم الدين إن شاء الله، ووضعت يدك على مكامن جراح المسلمين في كل مكان ووصفتَ معاناتهم أقلياتٍ كانوا أو اكثريات، ولطالما صَرَخْتَ صرخة معتصمية، أو غضبت غضبة عُمَرية، وفي زمن لم يَعُد لنا فيه الا أن نغضب أو نصرخ، غضبنا معك وصرخنا في أوراقنا التي نكتبها ومن فضل الله علينا أن نكتب معك في صحائف تحمل أشرف اسم حملته صحيفة “المدينة المنورة” قد يظن بعض الناس يا صلاح الدين أننا تعلمنا منك الكتابة فحسب أو تعلمنا منك فَنّ الصحافة فحسب وذلك صحيح في حد ذاته، إذ كنا ما زلنا نحبو في عالم الكتابة وأنت نجم لامع فيه، وكنا ما زلنا نتدرب على التحرير وإدارته وأنت في مواقع القيادة والريادة وتَخرَّج في مدرستك اكبر صحفيي اليوم وابرعهم. كل ذلك صحيح يا أبا عمرو ولكنا تعلمنا منك الكثير سوى ذلك مما قد يكون أعلى وأسمى، تعلمنا منك الأدب الرفيع والتواضع الجمّ، فما دعوناك الا لبَّيت وجلست بيننا واطلت الجلوس، وانت من ينام مبكراً ويصحو مبكراً احتراماً للمجلس وتعلمنا منك أدب الانصات: وتراهُ يُصغي للحديث بسمعه وبقلبه، ولعله أدرى به. وتعلمنا منك خفض الصوت في المجالس، فإن كنتُ صاحب الصرخة المعتصمية والغضبةِ العمريّة في فلك الدائر دائماً بإذن الله. فأنت في معادلة عجيبة صاحب الصوت الخافت والهمس الماتع في كل مجلس حلَلْت فيه، بل إنك لا تأخذك شهوة الكلام، فلا تنبس ببنت شفة الا إن طُلب منك الحديث، فإن تحدثت أمتعت وأفدت وعَلَّمت، شهدتُ ذلك بأم عيني مرات ومراتٍ في مجلس أخينا الاكبر، المفكر والاديب والعالم والسياسي معالي الاستاذ احمد زكي يماني متعه الله بالصحة والعافية، ومجالس أخرى كمجلس حِبّي في الله زميل عمري الاستاذ الدكتور عاصم حمدان علي وفي حضرة الكثير من محبيك ومريديك. تعلمتُ منك دروساً كثيرة في الشرف والعزة وحفظ المواثيق، وأنت تعلم حق العلم عن موقف لي شخصياً معك، حين عُرض عليك عمل تجاري كان يقوم به أحد زملاء المهنة، ويمكن ان يدُر عليك من المال الكثير، فرفضت وأبيت وترفعت عن ان تناقش الامر من بدايته حفاظاً منك على صلات الاخوة والزمالة مع أخ عزيز عليك وعليّ وأنت تعلم أنك إن لم تأخذ العمل فسيأخذه غيرك، وقد كان وقلت لي مرات ومرات: “أنا ما اسويها يا أبا أيمن”. بلغ من أدبك يا أبا عمرو أننا طالما وضعنا أيدينا على بعض مقالاتك الرائعة في صحيفتنا المحبوبة المدينة “وأعدنا نشرها في مجلة الإغاثة” مع اشارتنا الواضحة بالطبع الى مكان نشرها الاول، ولم تقل لي مرة: لم فعلت هذا دون ان تشاورني لطفاً منك وأدباً وذوقاً. نحن المختصين في لغة القرآن ما شعرنا يوماً أننا أغيَر منك عليها، ونحن الفخورين بالدفاع عن الأدب الملتزم ما فعلنا نصف ما فعلته في دفاعك عنه. ونحن المنادين بالوسطية والاعتدال دوماً ما زلنا نراك أمامنا في ميدانه الواسع. وسيبقى فلكك يدور بإذن الله وعونه وتوفيقه يا صلاح الدين، وإن قراءك الملايين في الدنيا كلها يتوقون لعودتك بشموس وكواكب جديدة في فلكك الرحيب، قد يحتاج بعض الناس أدق المكبرات ليروها فتريهم إياها رأي العين لتنير عقولهم وافكارهم وترقى بحسهم وذائقتهم.