بعد جولة موفقة في عدد من المهرجانات الدولية انتهت بحصول الفيلم على جوائز هامة، انطلقت خلال الفترة القريبة الماضية في القاعات السينمائية التونسية عرض الشريط السينمائي الطويل “الدواحة” للمخرجة التونسيةالشابة رجاء العماري وهو الفيلم الثاني في مسيرتها الفنية بعد فيلمها الأول “الستار الأحمر” الذي أحدث ضجة لكشفه ((عالم الليل في الشوارع التونسية)) من خلال قصة امرأة أرملة رمت بنفسها في ذلك العالم. شريط “الدواحة” يأتي برؤية بعيدة عن مقومات الشخصية الجماعية التونسية، مثيراً بذلك عدة أسئلة، أهمها حالة رحلة الصراع النفسي ضد القيود، والبحث عن الحرية وتحقيق الذات، من خلال تقديم علاقة بطلتا الشريط (عائشة) و(راضية) بأمهما، ووحشية العزلة وقساوة الحياة التي تعيشها “عائشة”، مما زرع فيها مشاعر الحرمان والكبت المادي والجنسي وجعلها تتحول في نهاية الفيلم إلى فتاة شبه معتوهة تسعى إلى الانتقام والتدمير. عن قصة هذا الفيلم الذي يكتسي طابعاً روائياً يرتبط في بعض اللقطات بأجواء كابوسية يخيّم عليها التوتر والتوجس في دائرة من العزلة الاختيارية لكثير من النساء وأسرارهن الدفينة، كان ل “الأربعاء” الحوار التالي مع المخرجة رجاء العماري. * بعد “الستار الأحمر” الذي تحدّث عن ((عالم الليل في الشوارع التونسية))، ماذا أردتِ أن تكشفي في “الدواحة”؟. - الفيلم لا يحمل رسالة معينة، فهو مغاير تماماً عن فيلمي السابق من الناحية الجمالية ويحمل في أجوائه التشويق وحكاية غامضة مع غموض الشخصيات، وحاولت من خلاله دخول عالم سينمائي جديد، وأعترف أن في فيلمي “الجسد” موجود لأنه محل الاهتمام، والفيلم قائم على التلصص، على المراقبة، على تفادي المواجهة، أو على الأقل، تفادي المجابهة... قد يكون الفيلم الأول مختلفا في هذا عن الثاني حتى وإن كانت الشخصية الرئيسية فيه تراقب عالم الكباريهات قبل أن تغطس في جوّه... لكن جغرافية الفضاءات في الفيلمين مختلفة وهي التي تملي النسق الرئيسي... هذه الجغرافيا هي المحددة لسلوك النساء، لسرقة النظر، لطبيعة النهاية ومأساويتها. * أفلامكِ أبطالها نساء.. هل لديكِ رسالة تريدين تبليغها عن المرأة؟. - لا.. بصفة عامة أحس نفسي قريبة من الشخصيات النسائية، أميل إليهن أكثر، ربما لهذا السبب أفلامي تدور حول المرأة، صحيح في السينما التونسية نجد المرأة هي المحور عموما، بما هي تعني نصف المجتمع ومتغيراته، ورغم قربي للشخصيات النسائية فهذا لا يعني أنه في المستقبل لن أشتغل على شخصيات رجالية، فليس لي موقف ضد الرجال.. غياب الرجل في هذا الفيلم له تأثير يعادل حضورهم.. كل شيء له علاقة بهم ويحوم حولهم بوصفهم شخصية هامة لأنها تمكن حيثيات الخرافة من التطور من الدم إلى الدم، دم بين الحمام إلى دم الشارع.. وبالتالي هو العقدة الدرامية للدواحة. * وهل تدخّل منتجو هذا العمل في محتواه؟. - لا.. لأن المنتجين الذين اخترتهم هم منتجون أعجبهم عملي، فانا أكتب السيناريو وبعد ذلك أقترحه عليهم، والذين لا يعجبهم أو يريدون التدخل أرفض العمل معهم، ففكرة تغيير العمل من أجل الإنتاج لا اقبلها، وهؤلاء المنتجين غايتهم (التي أراها محقة) هو أن يكون هناك عدد من التقنيين موجودين في الفيلم، ففي “الدواحة” كان هناك تقنيون من سويسرا وفرنسا، والمهم أنا رسمت بما هو في داخلي، ولو أنه وفي بعض الأحيان سوداويًا، وعرضت المشاهد وكأني رسمتها بالريشة، وعرفت كيف أضع الشخصيات في مكانهم، وبالتالي ليست هناك عفوية في التمثيل، وقد حظيت بممثلات قبلن قواعد اللعبة مثل سندس بلحسين التي طوّعت جسدها لمتطلبات الشخصية. * هذه المتطلبات والعفوية هل يمكن أن تجلب الجمهور التونسي الذي هجر قاعات السينما؟. - لا أستطيع أن أتكهن إذا كان الفيلم سيعجب الجمهور التونسي أم لا، فمشكلة هجر الجمهور التونسي للقاعات ليس فقط بسبب نوعية الأفلام، بل تتمثّل في قاعات السينما، فأنا صُدمت عندما قيل لي بأن الفيلم سيخرج في 3 قاعات فقط، وعلمت بأن عدد قاعات السينما في تونس بدأ يتقلص بشكل كبير بسبب رغبة الجمهور في مشاهدة الأفلام على “دي في دي” في بيته وليس في القاعات، وهذا يجعلني اتأسف على ذلك وليس بمقدوري أن أفعل شيئا، أقول لهم صراحة أني أتأسف لهم... من ناحيتي كسينمائية صوّرت قصة، وإن لم تجد صدى لدى البعض، فهذه ليست مسؤوليتي... ولا يمكن أن أصوّر فيلما لا يمثلني، فيلم يستجيب لرغبات الآخرين، وعموما النقاد والإعلاميون والمهتمون بالسينما يمثّلون الاختبار الحقيقي، بالإضافة إلى أهمية المهرجانات، وإذا كان الفيلم جيداً فحتماً سيجد مسالك لتوزيعه إنطلاقا من المهرجان الذي عرض به. أحداث فيلم “الدواحة” تدور الأحداث حول أمّ وابنتيها يعشن خفية في دهليز بيت مهجور، وإن كان لابد من وصف لهذه الشخصيات، فإنه يمكن القول أن جميعهن مضطربات نفسيا. كان من الواضح أن سلوكهن سينتهي بهنّ إلى عمل يصطلح أصحاب العقل على أنه عمل “جنوني”. يكفي أن نتفطن إلى أن الأم ذات الجثة الضخمة ترقد على سرّ خطير تكشف عنه الأحداث شيئا فشيئا، وتكتم على أنفاس البنتين مستخدمة سلطة الأم المتضخّمة في غياب الأب، حتى ندرك أننا سنكون حتماً على موعد مع ردة فعل ما من البنتين.. وكانت الحديقة واسعة الأرجاء فسحة للجمهور الذي يتنفس الصعداء من خلال المشاهد التي صُورت بالحديقة وبين أشجار الزيتون، يتنفس الصعداء لأن أغلب المشاهد تدور إما في ظلمة الدهليز الحالكة، أو في البيت الكبير، حيث تبدو الأنوار خافتة وحيث يكون للأصوات صدى قوياً، في تعارض تام مع صمت المكان، فتخيّم أجواء من الرهبة، ويزيدها حدةً ذلك الصمت المطبق، حيث كانت المشاهد في أغلبها خالية من مصاحبة موسيقية. ويعتري المشاهد الإحساس أحيانا أننا إزاء فيلم من أفلام “هيتشكوك”، حيث التشويق يتّخذ شكلاً تصاعدياً، وإذا بالمخرجة تراوغ المشاهد وتتركه مع المشهد الأخير في حالة ذهول. ولنعترف أننا مهما حاولنا استباق الأحداث، ورغم تلك المؤشرات التي كانت تلقي بها المخرجة من حين لآخر، من خلال موقف ما أو سلوك أو حركة تقوم بها إحدى الشخصيات، لتكشف لنا نفسية بطلاتها، فإن المشاهد لا يمكنه أن يتكهّن بتلك النهاية المأساوية. وكان عنصر المفاجأة حاضراً على الرغم من أن الأحداث أخذت منعطفاً كبيراً، منذ المشهد التي عاشت خلاله الممثلة حفصية حرزي (أو عائشة.. البنت الصغرى في الفيلم) حالة من الهيستيريا، كشفت من خلاله المخرجة عن السرّ الكبير الذي تخفيه الأم، وتجبر ابنتيها على مشاركتها إيّاه، فللأمر علاقة بالأب ورضيع مدفونين بحديقة البيت الكبير المهجور ذو الطراز المعماري الذي يعود إلى عهد الاستعمار الفرنسي. كان قد حدث ذلك بعد أن وقعت صديقة الشاب في شراك النساء الثلاث وتحولت إلى رهينة، فأصبح المتفرج متهيئاً ضمنياً لمثل هذه النهاية، لكن المخرجة كانت تقدم إشارات من حين لآخر تجعل المشاهد يأمل في انفراج قريب أو يتطلع إلى نهاية سعيدة للأحداث.