مع إطلاله شهر ربيع الأول من كل سنة، تعم الفرحة كل الوجوه استبشارًا بذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، المنزّل رحمة للعالمين، سيدنا محمد بن عبدالله الأمين، عليه وعلى آله أفضل الصلوات والتسليم، في هذا الشهر بخاصة، وليلة الثاني عشر منه يتبادل المحبون التهاني، وتنطرب الأفئدة لسماع أجمل المدائح النبوية، وينبري الخطباء والدعاة والعلماء للحديث عن ملامح صفاته وعظائم أخلاقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما أجمل مكان يُذكر فيه اسم الله، ويُذكر فيه حبيبه. تلك هي حال كثير من المجالس على نطاق أفق عالمنا الإسلامي من شرقه إلى غربه، ولا شك فإن في هذا الأمر مندوحة كبيرة إذا جانب أصحابها فعل المنكرات من الأفعال والأقوال التي تخرج صاحبها عن طريق الصواب. والسؤال الجوهري: ما الذي نستفيده كمسلمين من الاحتفاء بذكرى مولد المصطفى عليه الصلاة والسلام؟ وكيف نعمل على ترجمة تعاليمه السامية، وسلوكه النوراني بين أظهرنا فعلاً لا قولاً؟ وما الوسيلة الأمثل لتعريف العالم أجمع بحقيقة عظمة خاتم الأنبياء وسيد المرسلين؟ وواقع الحال فلست هنا في مكان الداعية أو المرشد الدّيني حتى أجيب عن ما سبق تفصيلاً، لكنني أحسب نفسي أحد العاملين على تدبر فقه التاريخ وسماته الروحية، الراغبين في سبر أغواره، وبالتالي وبحسب تصوّري فإن من أكبر إشكالاتنا كأمة إسلامية بدءًا، كامن في عدم معرفتنا بشكل دقيق لجوهر حقيقة عظمة نبينا الذي أرسله الله رحمة للعالمين، لينقل الناس من غياهب الجهل إلى عوالم النور والمعرفة، ويحرر العباد من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق، فتتحقق العدالة المفقودة، وتتجلّى الغايات الربانية من الخلق، الهادفة إلى تعزيز التكافل والتراحم والمحبة بين جميع خلقه، القائمة على أساس من التساوي وفق ما تقتضيه لائحة الحقوق وقوانين السنن الكونية، لأجل ذلك كان حرصه صلى الله عليه وآله وسلم، وطوال مسيرته النورانية خلال العهدين المكي والمدني، على تعزيز قيم الحرية والعدالة والمساواة، وهي الثالوث المقدس لكل طالب حق على هذه البسيطة، وكل حارس للقيم ضمن جنبات مجتمعاتنا، فلم يعمد عليه الصلاة والسلام على فرض قناعاته الإيمانية على أي أحد كائنًا مَن كان، كما لم يعمل على إلغاء ونزع شخصية الآخر المخالف له بأي صورة من الصور، أو فرض تغييرها حال اتباعه والإيمان به، كما هو الحال مثلاً مع أم ولده سيدنا إبراهيم السيدة ماريا القبطية، حيث لم يفرض عليها الدخول في الإسلام بداية، فترك لها الخيار في ممارسة طقوسها العبادية، بل وبنى لها صومعة لأجل ذلك، ثم وبعد إسلامها واتباعها له، لم يقم بتغيير اسمها، فظل اسمها ماريا من قبل ومن بعد، تلك هي الحرية التي مارسها النبي فعلاً وسلوكًا، وحضّ عليها الكتاب الكريم في عديد من آياته الطاهرات كقوله جل وعلا {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}. وفيما يتعلق بالجانب العدلي فقد جاء النبي ليبدي سخطه من حالة التمايز المجحفة بين العرب قبل الإسلام، أولئك الذين إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم الوجيه تركوه، ويعلنها مدوية أمام الناس جميعًا بأنه لو سرقت فلذة كبده وريحانته وبضعته الشريفة فاطمة الزهراء لأقام عليها الحد، ما أجمل هذا الحسم الذي لا مراء فيه، وما أروع هذه القيمة حين تصبح حقيقة بادية للعيان، فالعدل وليس غيره أساس الكون، وقيمة وجوده، وجوهر رحمة الله العادل بين عبيده، والعدل في جوهره عنوان للمساواة المراد تحقيقها بين بني البشر، فالناس جميعًا من خلق الله الواحد الأحد، والكل نطفته الأولى من تراب، وهو ما حرص النبي على إشاعته بين أصحابه، وتعميقه في نفوسهم، فأين نحن من ذلك؟ وكيف تبدلت أولويات قيمنا، لتصبح مفاهيم الحرية والاختيار شيئًا من الخطأ الفادح، والمعصية الكبيرة، والاستلهام الشيطاني، وتصبح مفاهيم العدالة والمساواة من المفاهيم النسبية، التي يختلف فهم مدلولها بحسب موقع وزاوية نظر الفقيه العالم.