يخوض العالم سباقا محموماً للسيطرة على العقول والقلوب، فيما تؤكد خبرات التاريخ أن من يسيطر علىهما يسيطر على كل شيء، وهكذا فلم تعد الكثير من الدول بحاجة الى جيوش جرارة، قدر حاجتها الى ماكينة إعلامية جبارة، تستطيع احتلال العدد الأكثر من الرؤوس، والسيطرة على المساحات الأكبر داخلها، والتأثير في قرارات وخيارات من يحملونها فوق أعناقهم. في سياق هذا السباق يتواصل اعتقاد البعض بالحاجة الى وزارات إعلام قادرة على امتلاك الماكينة وإدارتها، وحماية الرؤوس الوطنية من تأثيرات الماكينات الأجنبية، فيما يرى البعض الآخر أن المسألة أبعد من ذلك بكثير ، فإذا كانت الرؤوس هى المستهدفة فتعالوا نحصنها، واذا كانت القلوب هى بوابات الرؤوس أحيانا، فتعالوا نجلو القلوب، ونبني الوجدان، ونصونهما من عبث العابثين، وغوايات الغاوين، وهذا الفريق يرى أن قلاع العقل التي تسهم في تشييدها وزارات الثقافة، والتربية والتعليم، هى الأكثر قدرة على صيانة الرؤوس الوطنية من الغوايات والتأثيرات الخارجية، وأنه إذا كانت وزارات الإعلام تقوم بدور سلاح المدفعية الذي يدك حصون العدو، وبدور المشاة التي تحتل مواقعه ، فإن وزارات الثقافة والتعليم تقوم بدور الحصون القوية التي يصعب دكها والتأثير على المحتمين بها داخل أدمغتهم. لكن ثمة فريق ثالث يرى أنه لا غنى عن المدفعية والمشاة، ولا غنى أيضا عن القلاع الحصينة، هذا الفريق يفتش طول الوقت عن آلية لحماية الرؤوس والقلوب من حملات التأثير الخارجية، وفيما ينشغل الجميع بهذا الحوار القديم/الجديد، يتسارع إيقاع وسائل تداول الأخبار والمعلومات بفعل التطور التقني الهائل، حتى نكاد نقترب من عصر يمتلك فيه كل انسان صحيفته الخاصة التي يقوم بإعدادها لنفسه تماما كما يعد كوبا من الشاي أو فنجانا من القهوة. حول هذه الفئة الأخيرة التي تعد صحيفتها كما تعد فنجانا للشاي أو القهوة، كشف تقرير أعدته شبكة تليفزيون بي بي سي أن ستة وخمسين مليونا من العرب (أكثر من عشرين بالمائة من السكان) يستخدمون شبكة الانترنت، وأن اثني عشر مليونا من العرب يشاركون في الموقع الاجتماعي “فيس بوك” وأن هناك نحو مائة وخمسين ألف مدون عربي (بلوجرز) ستون بالمائة من بينهم مصريون (90 ألفاً) مدونات معظمها سياسية. وتحدث تقرير تليفزيون بي بي سي عن معوقات يواجهها المستخدمون العرب للانترنت، لكنه لم يشر الى العوامل التي قد تدفع شبابا عربيا الى اختيار فضاء الشبكة العنكبوتية للفضفضة والتعبير عن الذات، وإن كان معظمنا يعرف هذه الأسباب، فنحن مجتمعات لا تعرف «البوح» ولا تتسامح معه ولا تبوح بأسراره، لكننا في ذات الوقت مجتمعات يحثنا ديننا الإسلامي الحنيف على طلب العلم ولو في الصين، وتقول أول آية نزلت من القرآن الكريم على خاتم الأنبياء وسيد البشر محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ»، لكننا مع ذلك لم نعد نقرأ، أو أننا حتى لا نهتم بمعرفة القراءة، ولا نولي أي اهتمام بتعليم أبنائنا كيف يحسنون القراءة، بدءا من اختيار الكتاب الجيد، وانتهاء بتمثل ما فيه من أفكار وقيم ومعارف، بل ان مؤسساتنا التعليمية والتربوية لا تولي اهتماما كافيا بتدريب الصغار على القراءة لا في فصول الدراسة ولا في المكتبة المدرسية -إن وجدت- ولا حتى في برامج القراءة اثناء العطلات. الخوف إذن ليس من محتوى الانترنت، وإنما من أدمغة ابنائنا الخاوية، والتي يسهل بالطبع حشوها بما تيسر لهم على مواقع الانترنت وسواها، والحصانة إذن ليست في تقييد الشبكة العنكبوتية أو حجبها، وانما الحصانة داخل هاتين القلعتين العظيمتين اللتين ما شادت الانسانية مثلهما (العقل والقلب) أو المعرفة والوجدان السليم، وهذان الكنزان لا يمكن صناعتهما بقائمة من الممنوعات، وانما بقائمة من الضرورات اللازمات اللازبات الملزمات، فالأصل في الاسلام الإباحة لا التقييد. بعض الفضائيات العربية المتنافسة على العقول والقلوب تعرف غالباً هذه الحقيقة لكنها لا تعرف بالضرورة كيف تتعامل معها، وفيما يرفع بعضها شعارات مثل «أن تعرف أولاً» يقول البعض الآخر «أن تعرف أكثر..» فيما يقول ثالث «أن تعرف أدق». ويحمد لكل تلك الفضائيات تسليمها بحق المعرفة، فكلها تقول “أن تعرف.....” ويبقى علينا الاختيار هل نفضل المعرفة أولاً .. أم أكثر .. أم أدق؟! ثم نمسك بالريموت كنترول لنمارس حريتنا في الاختيار بين الأسبق والأكثر والأدق. الحقيقة أننا نريد كل ذلك دفعة واحدة فنحن نريد أن نعرف أولا وأكثر وأدق، وهى مهمة شديدة الصعوبة بالنسبة لصناع الإعلام، فالجمع بين هذه العناصر الثلاثة يحقق حالة من الكمال من الصعب أن تتحقق على نحو دقيق ومستمر وملزم، وفي عصر صحيفة لكل مواطن تبدو مهمة الإعلام أكثر صعوبة، ومهمة التعليم أكثر دقة، ولأن حماية الأوطان مسؤولية لا تتقدم عليها أية مسؤولية، ولأن صيانة الأدمغة باتت خط الدفاع الأول عن سلامة الأوطان، تتوزع مسؤوليات الحماية بين وزارات الدفاع والإعلام والتعليم والثقافة، لكن أخطر تلك المسؤوليات يتحملها المواطن الفرد الذي ينبغي أن نسلم بحقه في امتلاك الحصانة والتزود بقدرات دفاعية رفيعة عن الهوية وعن الوطن وعن الذات، والحرية هي مناط كل ذلك، اذا أحسنت مؤسسات التربية والتثقيف والتأهيل إعداد النشء لمواجهة استحقاقات المستقبل بالإباحة لا بالتقييد.