يوم الأربعاء قبل الماضي، حكمت إحدى المحاكم الصهيونية على زعيم الحركة الإسلامية في الأراضي المحتلة عام 48 (الشيخ رائد صلاح) بالسجن الفعلي مدة تسعة أشهر، وستة أشهر أخرى مع وقف التنفيذ بتهمة التحريض على الاحتجاج، والاشتباك مع جندي صهيوني حكمت له المحكمة بحوالي ألفي دولار يدفعها له الشيخ، فيما سيبدأ تنفيذ الحكم بعد 45 يوما من تاريخ صدوره. الشيخ رائد صلاح يحمل روحه على كفه منذ سنوات طويلة، وهو يفعل ذلك بملء إرادته، والسجن هو أقلّ ما يتوقعه، وقد جربه سنوات من قبل، ومعه ثلة من إخوانه من دون أن يفت في عضدهم، أو يحرفهم عن المسار الذي اختطوه لأنفسهم. نعم ما يتوقعه الشيخ عمليا هو الشهادة في سبيل الله، وفي سبيل القضية التي آمن بها وعمل لأجلها، ويعلم الجميع أن المتطرفين الصهاينة يتربصون به صباح مساء، وربما الدولة الصهيونية ذاتها التي لن تتردد في قتله وتقييد القضية ضد مجهول إذ ما اقتنعت في وقت من الأوقات أن تداعيات قتله لن تكون أسوأ من بقائه حيا أو داخل السجن. بكل كبرياء تلقى الشيخ نبأ الحكم عليه، وخرج يتحدى الدوائر الصهيونية، معلنا أن سيواصل دربه في الدفاع عن الأقصى وعن القدس، بل وعن فلسطين كلها، وهو سيفعل حتى وهو داخل السجن، فالرجال الذين رباهم على حب الأقصى والقدسوفلسطين، لن يكفوا عن العمل، وقد كانوا كذلك عندما كان هو خلف القضبان قبل سنوات، بل لعلهم كانوا أكثر عطاء، فالقادة يكبرون بالأسر والشهادة، ومعهم تكبر القضايا التي يعملون لأجلها. مطلع التسعينات، كان الجدل محتدما في صفوف الحركة الإسلامية في الأراضي المحتلة عام 48 حول دخول الكنيست، وتبنى زعيمها الشيخ عبد الله نمر درويش الرأي القائل بالمشاركة في الانتخابات، لكن الشيخ رائد كان له رأي آخر، ومعه ثلة من إخوانه، فكان الانشقاق الذي أفضى إلى انحياز الغالبية الساحقة لخيار الشيخ (الجناح الشمالي)، وهو ما زاد من حنق الصهاينة عليه. الأكيد أن حقد الصهاينة على الشيخ إنما ينبع بشكل أساسي من حراسته للمقدسات وفي مقدمتها الأقصى، ووقوفه في وجه مخططات تهويده وهدمه وبناء الهيكل على أنقاضه، الأمر الذي يحظى بإجماع في الأوساط الصهيونية التي تردد في السر والعلن مقولة بن غوريون «لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل». لكن ذلك ليس كل شيء في واقع الحال، فالشيخ لم يحرس الأقصى فقط، بل حرس الذاكرة الجمعية لفلسطينيي الأراضي المحتلة عام 48، ومن يعرف ما كان عليه الحال في السبعينات، مقارنة بما عليه اليوم، يدرك أي جهد رائع بذله في مواجهة سياسة «الأسرلة» التي اتبعتها سلطات الاحتلال وكانت على وشك النجاح لولا ظهور الحركة الإسلامية وتجذر فكرها وحضورها تحت قيادته الربانية. لقد أعاد الشيخ (هناك جهود لقوى أخرى من دون شك، وإن تكن أقل وزنا)، أعاد الهوية الفلسطينية والعربية والإسلامية للأراضي المحتلة عام 48، كما أعاد الناس إلى قضيتهم. وبرفضه دخول الكنيست كان الشيخ يوجه صفعة أخرى للاحتلال، لأن الدلالة لا تخفى عليهم، فهنا دولة احتلال لا يعترف بها الشيخ وأنصاره، ولا يمكن أن يعترفوا بها، وقد ثبت عمليا أن المفاسد التي ترتبت على دخول العرب للكنيست كانت أكبر بكثير من المصالح المحدودة التي تحققت. إلى جانب ذلك كله كان الشيخ يقف بكل إباء إلى جانب إخوانه في حركة حماس وتيار المقاومة برمته، يمدهم بما تيسر من أسباب الدعم، الأمر الذي كان سببا من أسباب استهدافه وحركته أيضا. داخل السجن كان أم خارجه، سيظل الشيخ رائد صلاح شوكة في حلوق الغزاة، وستظل صرخاته «الأقصى في خطر، القدس في خطر» ترهق أسماعهم، لاسيما أنها تجد صداها في قلوب وعقول، ومن ثم سواعد مئات الآلاف من الرجال الذين لن يخذلوا شيخهم، ولا يخذلوا الراية التي رفعها مهما كانت الظروف .