مقولة أن العقل أصل في العقائد قبل النقل قول فلسفي "توقفنا في الحلقة السابقة عند إيضاح أن حديث عمر رضي الله عنه مستفيض وله حكم الإجماع السكوتي من حيث عدم وجود معارض ثم إن الأمة تلقته بالقبول والعمل به بلا مخالف إلا فيما يثار من شبهات واستدلال من قبل عباد الأصنام وأهل التبرك والتمسح بالقبور والأضرحة والجهال ونواصل في هذه الحلقة" أما من ناحية أن خبر الآحاد لا تثبت به العقائد كما ذكرت فلم يقل بهذا الكلام أحد من السلف وأئمة الدين وجهابذته ممن عرفوا بتمسكهم بالكتاب والسنة سواء في القرون المفضلة أو ممن جاء بعدهم فكلهم يرون الأخذ بأحاديث الآحاد في العقائد وغيرها إذا توافرت فيها شروط القبول والصحة المتعارف عليها في علم المصطلح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (مذهب أصحابنا أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات العقائد)، ويقول ابن القيم: (لم يزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته), وقال ابن النجار الفتوحي: (ويعمل بآحاد الأحاديث في أصول الديانات وحكى ذلك ابن عبد البر إجماعا) ولو أردت الاستطراد في النقل عن جهابذة العلم لاستطردت ولكن المقام لا يسمح فأكتفي بما ذكرت. ومما يدلل على قبول أحاديث الآحاد في العقائد وغيرها ما يلي: 1– إرسال معاذ رضي الله عنه إلى اليمن لجباية الزكاة وتعليم الناس دينهم وذلك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمَا أَهْلَ كِتَابٍ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ ...) فها هنا معاذ فرد من الناس أرسل ليبلغ دين الله كاملاً أصوله ومعاملاته فَلِم لم يقولوا له ارجع وأتنا من الرجال ما يبلغ حد التواتر حتى نصدقك؟ ولو كان التواتر شرطاً في قبول العقائد لما جاز للنبي صلى الله عليه وسلم إرسال فرد ليبلغ الدين لقوم حدثاء عهد بالإسلام وأيضا لو كان التواتر شرطاً فهذا أوان وجوب تبليغه من قبل النبي صلى الله عليه وسلم, والقاعدة الأصولية كما عند علماء الأصول تنص على أنه لا يجوز على النبي تأخير البيان عن وقت الحاجة وهذا هو أوانها فهل نقول أن النبي صلى الله عليه وسلم فرط في ذلك وحاشاه ذلك, إذاً تبين مما سبق أن خبر الآحاد معمول به في العقائد وغيرها. 2- ورد في صحيح مسلم: عن البراء بن عازب رضي الله عنه: (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فَنَزَلَتْ بَعْدَمَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَمَرَّ بِنَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُمْ يُصَلُّونَ فَحَدَّثَهُمْ فَوَلَّوْا وُجُوهَهُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ). فهنا نرى امتثالاً ٌمباشراً من الصحابة وذلك بخبر واحد من الناس ولم يجادلوا أو يطالبوا بحد التوتر. 3– قوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا) والطائفة في اللغة كما قال الغزالي في المستصفى عند ذكر المسألة: نفر يسير كالثلاثة ونحوهم ولو كان حد التواتر مطلوب لما اكتفي بإنذار الطائفة. 4– أيضاً ما تواتر من إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم سفرائه ورسله إلى أطراف البلدان وإلى الأمم المجاورة إما لتبليغ الدين أو لتعليم حكم أو لعرض دخول في الإسلام كما أرسل إلى هرقل الروم, وكسرى الفرس, ولو احتاج في كل إرسالية لتبليغ الدين أو غيره مما سبق إلى حد التواتر لخلت المدينة من أهلها ولصارت عورة لأعدائه فهل يقول ذو لبٍ بذلك. إذاً اتضح ولله الحمد بالدليل أن خبر الآحاد مقبول عند الصحابة وغيرهم سواء في العقائد والأحكام, ولو كان شرط التواتر من الدين لبينه النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعت الحاجة إليه. ولم يخالف في ذلك إلاَّ الفلاسفة والمتكلمة من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية غيرهم ممن بنوا عقائدهم على العقول وألقوا وراء ظهورهم المنقول بحجة تعارض المنقول مع المعقول فتنكبوا بذلك عن الصراط المستقيم ولم يتبعوا سبيل المؤمنين مما استوجب من جهابذة الدين أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية أن يفرد كتاباً مستقلاً من أفضل ما كتب في بابه للرد على هؤلاء وهو كتاب: "درء تعارض العقل مع النقل". أما قولك: فالعقائد الأصل فيها العقل قبل النقل. وقولك: العقل أصل قبل النقل في العقائد. فأقول لك إن هذا الكلام هو عين كلام الفلاسفة المشَّائين والمتكلمة من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية وغيرهم ممن خالفوا منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة, وحقيقةً أتساءل أنك عندما نقلت هذا الكلام هل نقلك لهذه القاعدة الكلامية نقلٌ عن علم ومعرفة بلوازم هذا القول أم هو نقلٌ مجرد بمعنى نقل "حاطب ليل" ٍفهذه القاعدة لها دلالات تشير لصاحبها ومتبنيها ولها لوازم فهل أنت ممن يقول بها ويعتقد, وها أنا ذا أذكر لك بعض اللوازم وبعدها أنت بالخيار إما أن ترجع عن قولك هذا أو نكون قد علمنا أي فكر تحمل في جعبتك وعلى أي نهج تسير وبعدها سيكون لنا معك وقفات في عامة ما كتبت وما ستكتب فهاك لوازم قولك: أولاً: يلزم من جعلك العقل أصل قبل النقل في باب العقائد عدم الحاجة إلى إرسال الرسل لأن العقل إذا استقل في معرفة العقائد وهي أصول الدين فلا حاجة للناس بالرسل إذ أن عقل كل إنسان هو قائده ودليله ثم إن هذا القول موافق لأقوال فلاسفة ومنظري "الدين الطبيعي" حيث يقول أحد منظريهم وهو تورالبا: (وحينما ترك الناس الدين الطبيعي الذي أودع في طبائعهم مع العقل فقد ضلوا, ويكفي الناس أن يحتكموا إلى القانون الطبيعي والدين الطبيعي, ويمكن الاستغناء عن غيره من الأديان مثل اليهودية والنصرانية والإسلام ولا حاجة للبشرية إلى التعليم والتربية في الدين الطبيعي. كل ما سبق إشارة إلى نبذ الدين والوحي والاعتماد على العقل في التوجيه ... إلى أن يقول: والعقل الذي منح لنا يستطيع التمييز بين الخير والشر).