يظن الإنسان بنفسه شراً حين يتخيل أنه سوف يعمر دهراً، فلا (يشبع) ولا يكتفي..! فيظل يخطط للملايين في عقله وللمشاريع في مؤسساته وللأرباح في متاجره وللزوجة والأولاد في بيته، ولكل ما لذ وطاب في معدته.. و.. و.. هكذا، حتى أن هذا النهم والتوجه المادي سطا على المهن والحرف والوظائف والضمائر، فطغى الجانب المادي على القيم والمبادئ والشيم والمروءة، فأصبح إنسان هذا العصر يشبَّه بالآلة التي تعمل دون انقطاع في اتجاه واحد!! تزامن هذا الفكر المادي مع حاجة الناس للمأوى ولحفظ الكرامة، وللعيش الكريم، وحب الاستقرار وبناء الأسرة وتأمين المستقبل الوظيفي.. الخ، ثم تراكمت هذه الاحتياجات على البلادة والتبلد والاتكالية والفشل والتسويف والمشكلات والأحداث لسنة بعد سنة.. وأجيالاً عاشتها تعقبها أجيال. والحال من سيئ إلى أسوأ..! في هذا الخضم المروع والظلمات المدلهمة يتسابق الأوباش واللصوص والانتهازيون.. إلخ للصيد في المياه العكرة واتباع أوجاع الانكسار.. تخبطاً وضياعاً وغشاً ومراوغة حتى يعم الجهل وتزداد الرؤية ضبابية وسوداوية وحيرة ويأساً!! ولكي تبلغ الهزيمة بالموقف العربي حد (الموت) ليكف الأقلية من المخلصين عن المناداة بالثبات والتراجع عن القول أو القيام بإصلاح هذا الانحطاط والفشل الذي بات كالضرب في الميت حرام. ومن هذا المشهد الذي يصوره (الواقع) المعاش للناس في المجتمع، يشعر الإنسان العادي ناهيك عن الإنسان المتفحص والفطن والمتأمل، انهيار وسقوط الكثير من المجالات الحياتية والقيم والمبادئ الأخلاقية من حوله، فأصبحت التحديات التي يواجهها العالم العربي كبيرة وخطيرة وبالذات على طريق (التنمية) في كافة وشتى المجالات. الفساد قاتل الله الجهل الذي جعلنا نغطي الخسيسة والسرقة والغش، ونتغاضى عن التسيب والتساهل والإهمال والاستهتار والخطأ، ونتسامح في العقاب المستحق! هذا ونحن كتاب الله بين أيدينا وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.. حين كان ينزل قائد الأمة ومعلمها صلوات الله عليه وسلامه إلى الأسواق فيفحص السلع المعروضة للبيع على الناس بنفسه، ويدخل يده الكريمة معايناً ومتفحصاً وحين لمس بللاً قال ما هذا: فرد عليه البائع لقد أصابته السماء يا رسول الله، فما كان منه صلوات الله وسلامه عليه إلا أن قال: (من غشنا فليس منا). نحن فرطنا في الأمانة وفرطنا في المسؤولية المناطة بأعناقنا وتعاملنا مع مفردة الكلمة على استحياء ومن وراء حجب، وكأننا نحن اللصوص واللصوص هم الشرفاء، ولعمري ليس في الدين حياء. الجميل أن إعلامنا جعل مساحة للصدق والوضوح والشفافية والمصداقية التي يطالب بها دائماً الشرفاء.. لذلك يجب أن يهب الجميع لقول الحق واتباعه فمازالت هناك ثغرات كثيرة للفساد والمفسدين تنتظر من يغزو مخابئها بسيف الصدق والعدل وشمس الوضوح. فالفساد ظلم وظلمات يستغل المضي فيه اصحاب القلوب والضمائر الميتة، ليتاجروا بالأرواح والممتلكات وحقوق الإنسان لينالوا من وراء ذلك أرباحاً لهم، فعلينا مواجهته والتحدي والتصدي له في كل مكان، وعلى مدخل كل (فجوة) غفلنا عنها وأهملنا مصيرها. إن المواجهة تعني القوة في الحق، واحتراماً للذات وللعقل فقد وهبنا الله عقولاً تميز وابصاراً تنقد، لننتصر على البغي، فلا نرضى بالظلم أو نتراخى لسلب إرادتنا ولكي نساهم في سلم الارتقاء وعجلة الحضارة والتنمية والبناء فلابد من المواجهة ومعاقبة المذنب والباغي واللص، ولابد من تعرية الفساد ومساءلته ومحاسبته لأنه من أمن العقاب أساء الأدب. وكم نحن في ترقب وانتظار ما سوف يسفر عنه التحقيق من نتائج عن لجنة تقصي الحقائق في كارثة جدة، وما يتبعه من إعلان عن نتائج الخطط والدراسات للمشاريع التي ستنفذ مصححة للأخطاء الماضية، وضمن تأكيد بعدم تكرار المآسي التي أصابت المواطنين، فالمستقبل يعد الأهم في مسار النهضة الصحيحة الخالية من الفساد والمفسدين وكان الله في عونكم .