يقول: «لا أراجعه في كثرة تعطيله للأمور»، ويقول ثان: «لا أعتذر لفلان عن تحقيق طلباته المرهقة»، وآخر: «لا أبين أبدا العيوب والثغرات المتكررة». ثم تسمع ختام الكلام في كل مرة يأتي ثابتا من كل واحد: «لأنني دائما أسكت... احتراما»...! فلنفكر قليلا. ثقيل الحركة الذي يؤجل الأعمال ويؤخر المواعيد، ويفعل ذلك دائما ويعطل فيحرك الغضب والنفور، وفي كل مرة يرد بأنه «حريص على ألا يتهور»، فهل نقبل رده وخلطه بين الحركة الطبيعية المطلوبة وبين التهور الشاذ؟ والثري الذي لا ينفق حتى تبلى ملابسه وملابس أسرته ويقول «حتى لا أبذر»، أوليس هذا خلطا بين الانفاق المتزن لحياة كريمة وبين التبذير المذموم الذي يتحجج به؟ والذي تقول له «ذيل ثوبك يزحف» فيرد «لا أريده فوق ركبتي» ألا تتعجب من رده وخلطه بين الطول المعقول وبين القصر المرفوض؟ الكلام هنا عن تكرار الجهل في الخلط بين طرفي نقيض، بين غليان وصقيع، بين ملح وسكر، وليس عن التقريب المقبول بين درجات ضمن تعريف واحد كدافيء وساخن أو كهضبة وجبل. من ذلك المبدأ يفرض سؤال نفسه عما بدأنا به الحديث: هل الخلط بين الاحترام والخوف مستساغ حتى يتنافر بسبه الناس وتذوب حقوق وتتقطع علاقات وتتبدل معايير ويصير النور ظلمة والسراب نبعا؟. لكل شيء حدوده. الخطابة المؤثرة إن خرجت عن حدودها دخلت في الحشو المنفر أو الايجاز القاصر، وهما نقيضان. كذلك الاحترام، إذا لم نعرف حدوده وانطلقنا باسمه في كل اتجاه تطرفنا حتى دخلنا فى التردد والجبن والتعطيل، وخلطنا المفاهيم، فأفسحنا المجال للتطاول والإساءة وللتخبط والفشل. من يصدُقني بأدب قائلا «في ثوبك بقعة ظاهرة» فهو ينبهني وينفعني وسأشكره وأذهب لأبدل ثوبي أو أمسح البقعة. فان أخفى وسكت فقد غشني. وإذا كرر سكوته عن عيوبي -أقول كرر سكوته ولا أتكلم عن مرة واحدة- ولو تحجج بالاحترام فهيهات أن أعرف بعيوبي فضلا عن أن أصلحها، وأن أقبل بأي نصح وتصويب، وسأعتد برأيي وأتطاول وأفسد. الاحترام مطلوب، أما استحضاره عند الضعف والتخاذل وتسمية كل نية به، فهو خلط واضح ممجوج لا يجعله احتراما بل انتقاصا من صاحبه وغبن للآخر. صدقك في مساعدة غيرك وفي ولاءك له أظهره بفعلك وقولك ولو أن تكلمه على انفراد أو برسالة، وإلا كذبت عليه وعلى نفسك وربما ثأثر آخرون. الصدق عادة تريح من تراكمات التصنع والندم الثقيلة، واذا كان مع الرفق فما أجمله وأجمل وقعه وأوسع تأثيره، ويالحظ وفضل صاحبه وسامعه. فليكن العام الهجري الجديد بداية جديدة كريمة جميلة لنا إلى الأحسن والأسعد باذن المولى جل جلاله.