هاتفني الزميل الأستاذ فهد الشريف -مساء الأربعاء الماضي- يبلغني أن ملحق “الأربعاء” سيحمل في عدده القادم ملفًا عن الشاعر المكي الأستاذ محمد عبدالقادر فقيه (يرحمه الله) ويطلب إليَّ أن أسهم في الكتابة عنه باعتباره كان زميلاً لي حينما كنا نعمل في وزارة الإعلام. وأردف الشريف أنه على عجل، ويأمل أن أبعث إليه بالمقال في غضون ثلاثة أيام، فأجبته أنني الآن على أهبة الاستعداد للسفر إلى خارج المملكة.. إضافة إلى إنني منهمك في كتابة مقالي الأسبوعي الذي تنشره صحيفة “عكاظ”. ولضيق الوقت وعدته بالكتابة عن الأستاذ فقيه بعد عودتي من السفر. ألحّ الشريف على أن يستلم مني المقال يوم السبت أو الأحد على الأكثر. فلم أجد بدًا -أمام إصراره- إلا أن أستجيب.. فظروف طبع الملحق تقتضي أن تكون مواد الأربعاء جاهزة قبل صدوره بثلاثة أيام.. فضلاً عن أن الشاعر فقيه شخصية أدبية يعزّ عليَّ أن لا أكتب عنه وهو أحد أعلام الأدب والشعر في بلادنا، وتربطني به زمالة قوية أحببته من خلالها، وعشت أجلّه وأتوق إلى اللقاء به والتحدث إليه كشخصية مميزة يجذبك إليها تواضعه وأدبه الجم، ويأسرك بسجاياه وخصاله الحميدة وأفكاره الثاقبة. كنت أعمل مديرًا عامًا للمطبوعات في الوزارة في الرياض، وكان الأستاذ محمد فقيه مديرًا لفرع المطبوعات بمكة المكرمة، ولم أكن أقوم بزيارة لمكة إلا ويسعدني أن ألتقي به في مكتبه إما للسلام أو للتفاهم معه فيما يخص العمل. كان يبهرني -ونحن نخوض في شؤون العمل- بآرائه الصائبة ومقترحاته السديدة.. قريبًا إلى نفسي.. ودودًا في حديثه.. مبدعًا في الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية وأبيات من الشعر ليدلل على أفكاره وتعليقاته. وحين يأتي الحديث عن أدب فقيه وشعره، فرغم معاناته السمعية، نجده قد تجاوزها.. فتفوق في عالم الإشارة وحركات الشفاه، وعوضه الله بحس شاعري أصبح معه شاعرًا من شعراء الوجدان الذاتي تتجلى في قصائده تجارب نفسية مفعمة بالبوح والشجن. ومع أن إعاقته السمعية ألجأته إلى ترك التعليم المنهجي في صباه، إلا أنه انبرى يعتمد على جهوده الذاتية بالاطلاع على مختلف مجالات العلم والأدب، فأخذ ينهل من الكتب والمراجع ما أكسبه أفقًا واسعًا وفكرًا ناضجًا، وسلك دروب الأدب، وواكب الحركة الثقافية، وتوغل في دواوين الشعر حتى امتلك ناصية الشعر.. فأصبح شاعرًا يفيض وجدانًا، ويصوغ قصائده التي صب فيها أحاسيسه ومشاعره الإنسانية. وانكب الشاعر -من جانب آخر- على دراسة علم النفس والتحليل النفسي نسي في ظله ظروفه السمعية لدرجة مكنته هذه الدراسة من أن يدرك -بفطنته وذكائه- ما وراء حركات الشفاه.. فيلتقط من المتحدث بأسرع ما يلتقطه من يتمتع بنعمة السمع. وانساب شعر الأستاذ محمد عبدالقادر فقيه على سجيته يحكي تجربة جيله بروح صادقة شفافة تنثر حبًا وتنثال عاطفة جياشة في صور شعرية يغلفها الحزن والحنين إلى ذكرياته مع أصدقائه وأقرانه. وبقي الشاعر زمنًا طويلاً يحتفظ بقصائده ضنًا بها على النشر إلا ما ندر.. حتى قيض الله له الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي (رحمه الله) صديق دربه فيصدر له مجموعته الشعرية الكاملة التي وصفت بأنها انعكاس لمشاعره التي تتوق إلى الحب وغدر الحبيب والوفاء وإلى ذكرياته لأيام الصبا. ولم تكن تستهوي فقيه موضة الشعر الحديث.. بل ظل وفيًا للأصالة في الشعر العربي الأصيل. وفي هذا السياق وصف الأستاذ محمد حسن عواد (رحمه الله) قصائده أنها قطع شعرية عربية أصيلة “يترقرق الشعر في بعضها ترقرق الماء في الجدول، ويتدفق في البعض الآخر تدفقًا صافيًا كالنهر، والحقيقة التي أشير إليها هنا هي التصوير الصحيح لمعنى الشعر بأنه الحركة الداخلية في النفس التي تبلور بالشعور والفكر، وليس هذا الكلام الموزون والمقفى الذي يقابل النثر” (الندوة 1/8/1423ه - ص16). وبين يديّ أبيات من قصيدة “يا منتهى الحب” يقول الشاعر فيها: يا منتهى الحب مازالت سرائرنا شداً إليكم وما ملت لكم سفرا على المدى وعيون الحب حالمة ترى المحار على شطآنكم دررا هل تذكرون.. فكم صان الوداد لكم قلب إذا نسيت أمثالكم ذكرا قلبي الذي قدس الأحباب واحترقت أضلاعه بلهيب الحب وانصهرا قلبي الذي كان يهواكم ويمحضكم صفو الوداد ويلقى منكم الكدرا لقى من الغدر ما يندى الجبين له وصان أحبابه نبلا وما غدرا أسمى من الغدر أقوى من مباذلكم أقوى وأكرم أسيافا إذا قدرا لهفي على الغر من أعوامنا انفرطت في حبكم وتداعت كلها هدرا أيام.. لا الشمس تسبينا ولا قمر يصد عنا محياكم إذا سفرا ولا الرياض التي هام الربيع بها ألهت لنا مهجة عنكم ولا بصرا ولا الحمائم من بيض ومن سمر ولا البلابل غنت بالهوى سحرا كنتم لنا كل ماضينا وحاضرنا وقابلاً من زمان بعد ما حضرا أحلامنا البيض كم شدت أواصرها إلى ذراكم ولم تعدل بكم وطرا تغربت في فجاج الأرض واحترقت بين الهجير وقالت عندكم غررا كنا إذا قيل من أنتم زهت قيم من الجمال وظلت ترسم الصورا واليوم نبكي عليكم في مباذلكم نغضي حياء إذا ما اسمكم ذكرا منا الوفاء ومنكم ما يليق بكم فالغصن يخرج من أكمامه الثمرا آمنت بالحب لكني كفرت به من غدركم فهوى كالصرح واندثرا تلك المحاريب كم هام الفؤاد بها وكم تبتل من وجد وكم نذرا وكم تصور جنات ترف سنا حتى إذا شامها ألفى بها سقرا أمست خواء وقلبي مثلها طللا تلفى القلوب على أطلاله العبرا يا ذروة الحب لم يظفر بهامتها سيف الأعادي ولم يدرك بها وطرا حتى إذا سامها كيد الصديق هوت من طول ما وثقت فيمن بها غدرا كما أنى احتفظ بقصيدة بخط يده.. يقول فيها: هل تذكرون وقد شط المزار بنا أيام كان لنا من ودكم سكن نأوى إليه إذا حف الهجير بنا وطوفت حولنا الأرزاء والمحن أود لو زرتكم لكن مودتكم قد دب فيها على بعد المدى وهن دار الحبائب إن حط السلو بها لا الطائرات تدنيها ولا السنن من أنت.. قالوا.. فأوجزت الجواب لهم أنا الغريب الذي أنتم له وطن رحم الله شاعرنا المكي الأصيل، وأسكنه فسيح جناته، وجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأحرّ التعازي لاخوته الأستاذين عبدالرحمن فقيه وعمر فقيه، والدكتور سليمان فقيه، ولبناته وأبنائه البررة عادل وعدنان وأيمن.