لا جدال في أن الأمر الملكي بتشكيل لجنة للتحقيق في أسباب كارثة جدة، وإسناد رئاستها إلى سمو أمير المنطقة لاقى ارتياحًا واستحسانًا من قِبل جمهرة المواطنين، وذروة الارتياح تكمن في الرؤية المستقبلية، والاطمئنان إلى سلامة المشاريع من غائلة الفساد وجائحة الخراب، إلاّ أن قاطني جدة وما جاورها يتطلّعون إلى رؤية مستقبلية حاسمة تقترن بهذه الخطوة الإيجابية. فلقد عاش أهالي جدة -خاصة الأحياء المتضررة- حالة أقل ما توصف بأنها هلع وفزع، مع تجمع الغيوم فوق سمائهم، وشروعها في الانهمار، فأضحت الأمطار التي كان الناس يتطلّعون إليها كسقيا رحمة مصدر خوف ورعب، يقابلها دعاء بصرفها إلى مَوَاطن الاستفادة، بل بلغ من الخلط لدى الناس التجمع الهاتفي عبر الرسائل في (حملة الاستغفار)، مع أن الاستغفار -كما نص القرآن- مدعاة لجلب المطر، والتوسعة في الرزق في صورة أموال وأبناء، فيما جاء مَن حض نبي الله نوح عليه السلام بقوله لقومه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10-12]. ولكن المعوّل عليه النوايا في الاستغفار من الذنوب، وإن كنتُ أتمنى أن تقترن الحملة بالدعوة إلى شروط التوبة في الندم على الذنب، والإقلاع عن الإثم، ورد الحقوق، والتطلّع إلى بناء مجتمع إسلامي نقي، يتساوى مظهره بمخبره. لقد تبلور هذا الفزع في مغادرة كثيرين لمنازلهم، وشيوع حالة من الاضطراب لدى بعضهم.. فهل يغادرون منازلهم؟ وهل يتركون الثمين من أغراضهم كالحلّي والصكوك والأوراق الثبوتية، وغير ذلك، أم يصطحبونها؟ لن يزيل هذه المخاوف، ويعيد إلى المدينة، التي تحوّلت إلى حالتي البؤس بفقدان عدد من الضحايا، والخوف من طيات ما يحمله الغيب لهم من كوارث في صورة أمطار وسيول جارفة إلاّ الشروع الفوري في إسناد مناقصات مختلفة لتغطية ومعالجة مصدر هذه المخاوف، وتتمثل في: 1- توفير شبكة مياه نقية لكل منزل. 2- توفير شبكة صرف صحي تشمل كافة الأحياء والمنازل داخل النطاق العمراني. 3- توفير شبكة مجارٍ للسيول تستوعب الاحتمالات المستقبلية، خاصة وأن المختصين أكدوا على وجود سبعة وعشرين واديًا تصب شرق مدينة جدة في طريقها إلى البحر. 4- تشييد مجموعة من السدود تصد اندفاع هذه السيول من الأودية الشرقية، ومحاولة الاستفادة من مياهها في صور مختلفة، بما في ذلك الشرب بعد المعالجة، أو السقيا للحدائق، أو تصبح رديفًا لشبكة مياه التحلية بعد تعميمها على بقية أرجاء المدينة للاستفادة منها في خدمات النظافة، وسقاية الحدائق. إن مدينة دنفر عاصمة ولاية كولورادو في الولاياتالمتحدةالأمريكية تشرب من مياه الصرف الصحي بعد المعالجة. ونحن نستطيع التوسّع في برامج التحلية في جدة والشعيبة، كما نستطيع الاستفادة من مياه السيول بعد معالجتها دون الحاجة إلى الشرب من مياه الصرف بعد معالجتها. وفي الجانب الآخر نستطيع الاستفادة من مياه المجاري كذلك في السقيا للحدائق، أو المراحيض. وسنجد في المحصلة النهائية أننا بإزاء فائض في المياه بعد الدراسة والاستفادة من رؤى وتوجهات المختصين. 5- ردم بحيرة الصرف الصحي (المسك)، وبقية البحيرات والمستنقعات، وبقايا المجاري لطمأنة المجتمع إلى زوال ذلك السيف المصلت على رقاب أهل جدة، يؤرق مضاجعهم، ويهدد حياتهم، وبوسع المسؤولين الاستفادة من تلك البحيرات في شكل حدائق بعد ردمها وتطويرها، أو بأية صورة أخرى. كما يتعيّن أن نفكر في كل إمارة بإنشاء إدارة طوارئ تتصل مباشرة بأمير المنطقة لمعالجة المواقف التي تطرأ، ولمعالجة ما ينجم من التباس أو احتكاك، فضلاً عن الإنقاذ وتفادي وقوع مزيد من الضحايا، ولعلّ من أبسط الصور التي توحي بتفشي مثل تلك الفوضى هو وصول المعونات إلى مستحقيها. فبين تدخل بعض رجال الهيئة في مركز العارض بدعوى الاختلاط، إلى رفع قيمة السلع في الأسواق بما في ذلك المياه الغازية، وامتدادًا إلى ادّعاء بعض ضعاف النفوس زورًا وبهتانًا، وتزوير بعض الوثائق للحصول على مساعدات. إن التطلّع إلى المبادرة في تحقيق الخطوات السابقة يقلّص كثيرًا من الخسائر التي تنجم عن خطر السيول، فهي تقتل الأنفس، وتهدم المنازل، وتدمر الممتلكات من سيارات وغيرها، كما أنها مدعاة لتداخل المياه الصالحة للشرب مع مياه المجاري، وما ينجم عن ذلك من أمراض قد تصل إلى درجة الموت، ثم انتشار الأوبئة، ومختلف أنواع الحشرات التي تتطور قدراتها في التشكّل، ومقاومة مختلف ضروب المبيدات. إن المبادرة السريعة توقف سيل الهدر للأموال، وتحدد مساراتها في الاحتياجات التي تعوز المدينة، فهي تستحق ذلك لاستكمال خطوات البناء، والدولة ليست بضنينة على عروسها؛ لكي لا تُزف إلى القبر.