عذرًا فسوف أخالف القاعدة، وأخرج عن المألوف، وأبدأ من النهاية وأنا أتحدّث عن ذلك الشاب الذي أدمى القلوب، وأرّق المحاجر، وشغل القاصي والداني بسيرته العطرة.. فرمان ابن الثانية والثلاثين، والأب لثلاث بنات.. فجأة اغتاله سيل جدة الهادر؛ ليسدل الستار -وبالقوة الجبرية- على المشهد الأخير من ملحمة التضحية والبطولة والفداء.. حينها تشبّث البطل ببقايا أمل، وهو يرنو بطرف بصره المذهول نحو المستغيث التالي، وقلبه يذرف دمعة أسف واعتذار، فاضت من قلبه الطاهر حزنًا وكمدًا؛ لأنه لم يستطع إتمام المهمة.. فقد اختل توازنه، وأسلم نفسه لراحة التعب عقب أربع عشرة جولة من الصراع المضني مع غدرة السيل وثورانه، ورغم صعوبة الموقف، وشدة المنافسة، إلاّ أن فرمان الأسطورة كان الرابح الأكبر بلا منازع في هذه الجولات الشاقة، متوّجًا انتصاره بانتزاع أربعة عشر نفسًا، كادت أن تزهق من بين الأمواج المفترسة.. كل هذا حدث وسط ذهول المفاجأة، وتحت وطأة الفاجعة، والتي لم تثنِه عن أن يعقد العزم على المضي قُدمًا في مخططه الإنساني، متساميًا وبشموخ صارخ فوق كل عصبية منتنةٍ، أو أثرة نفس رخيصة، فقد حدد الهدف، وآمن بالرسالة (ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا) فباع الغالي بالأغلى، وقرر أن يعلّم مَن حوله وبصمت (أنّ القيم قد تتوارى ولكنها لا تموت). كانت هذه شذرات من فصول قصة رجل أحب لقاء ربه، فوهبه خالقه نعمة الاصطفاء، وجمع له من خصال الخير أشرفها وأعلاها، فهيّأه للقيام بهذه المهمة على أكمل وجه.. فتحوّل بذلك فرمان وفي لحظات.. من إنسان بسيط بمقاييس البشر المتحيزة والقاصرة، إلى رجل خُلّد اسمه في صفحات التاريخ النيّرة بحروف من حياة، ومداد من أمل. بقي أن أعترف بأني كنتُ مخطئًا عندما قلتُ بأنني سأبدأ من النهاية.. فالشهداء لا يموتون، بل هم أحياء عند ربهم يرزقون.. نحسبه كذلك، ولا نزكّي على الله أحدًا. محمد أحمد الآنسي - جدة