يبقى المسرح إحدى العائلات الفنية العريقة في صنع الفرجة والتعبير عن إنسانية الإنسان، عبر الالتحام بمشاغله، والسكن في خلاياه الموجوعة، والسفر على أجنحة أحلامه، إلى حدود الممكن، وأحيانا إلى ما بعد هذا المدى الأخير. و»أيام قرطاج المسرحية».. التي أُختتمت مؤخرا في تونس، كانت فرصة ثمينة للجمهور العريض للتعرّف على بعض أوجاع «الآخر».. يفهم رؤيته للواقع وللأشياء التي تضفي على حياته معنى.. وهي فرصة كذلك لإطلاق الحواس انغماسا في كتابات ركحية مختلفة، وتجارب هي بنات بيئاتها، وتعبيرات نراها ونسمعها ونترنم إيقاعها المختلف، وتجد في أذهاننا مساحة للانشغال بها، وبالقلق الذي أنتجها. وقد أتاحت الدورة الرابعة عشرة من «أيام قرطاج المسرحية»، والتي دامت عشرة أيام، مساحة واسعة للاكتشاف والانفتاح على مسارح العالم، بعضها عريق في الممارسة المسرحية، وبعضها الآخر يثور على الكلاسيكيات، متجها إلى التجديد في الكتابة الركحية. المسرح السوري يثور من بين الأعمال المسرحية التي شدّت الانتباه في هذه الدورة، مسرحية «تيامو» السورية، إنتاج المسرح القومي وتأليف وإخراج رغدا الشعراني. الحضور كان كبيرا وملأ فضاء العرض بالمسرح البلدي بالعاصمة تونس الذي انطلق منه الفنان المتألق والمعروف جهاد سعد في سرد الحكاية على ركح لا شيء فيه سوى شاشتين كبيرتين الأولى قبالة المتفرج والثانية على يمينه، وعلى اليسار آلة باطري كبيرة الحجم. وكان صوت جهاد سعد يملأ الفضاء وهو يروي حكاية شكسبير مع حزنه وألمه وكآبته، ما قاده إلى مسرحه والالتقاء بشخصياته المسرحية التي اجتمعت وقررت أن تخرجه من حالته النفسية تلك وأن تدخل عليه شيئا من الفرح. لهذا الغرض اختارت رغدا الشعراني أن تعيد تشكيل بعض شخصيات شكسبير الخالدة وأن تحملها رؤيتها الخاصة لطرح موضوع الحب الذي تدور حوله مسرحية «تيامو» (أحبك باللغة الإيطالية). ومع تيامو تمزج الكاتبة بين مسرحيتي «هاملت» و»روميو وجولييت»، ويتحوّل ركح «تيامو» إلى نافذة تشرع على مدونة شكسبير، التي أرادت رغدا الشعراني أن تكرّمه وهي تعلي من شأن الحب في عمله هذا، وترى أن شكسبير هو أصدق من عبّر عن هذه القيمة في أعماله. وتُولي مسرحية «تيامو» أهمية قصوى للشكل، وهو شكل اعتمدت فيه المخرجة على التجريب وذهبت من خلاله إلى أقصى حدود المحاولة واستثمرت فيه جلّ الإمكانيات والوسائل التقنية الحديثة والمعاصرة. فالشاشتان تعكسان أحيانا انفعالات الوجوه التي يقف أصحابها أمامنا على الركح، وتدور عليها -في أحيان أخرى- أحداثا تدور خارج الركح ومكملة لما يدور فوقه. وما يدور على هاتين الشاشتين هو ما لم يتفطّن له شكسبير في كلاسيكياته الخالدة، وما أضافته له رغدا الشعراني، وهي تحاول أن تقدم عملا معاصرا يستفيد من التقنيات الحديثة.. تقنية الفيديو والسينما وحتى الفيديو كليب. وأما اللغة العربية واللهجة السورية الدّارجة وبعض الكلمات الفرنسية وأخرى بالانكليزية والعنوان بالإيطالية، فهل هي رغبة المؤلفة والمخرجة في التعبير عن موقف يقول أن المسرح فنّ كوني له لغة واحدة وجنسيّة واحدة؟ ربما على امتداد ساعة ونصف عاش جمهور «تيامو» مع تجربة مسرحية فيها الكثير من التجديد. عبدالجبار حلّ الكتاب يواصل مركز الفنون الركحية والدرامية بقفصة، أعماله الإبداعية، وأخرها ما تم عرضه في أيام قرطاج المسرحية، لتعزيز الحضور المكثف للمسرح التونسي الذي أحتفل في هذه الدورة بمأوية مسرحه. ومسرحية «عبد الجبار حلّ الكتاب» كوميديا ساخرة تأليف أحمد عامر وإخراج عبدالقادر مقداد، وهذه المسرحية مرآة عاكسة للوحات تجسّم مشاكل اجتماعية وتستجلي واقع فئات مختلفة الجنس والمستوى مهزوزة الإيمان، لم يفلح التطور العلمي والمعرفي الذي توصل إليه الإنسان اليوم من تكنولوجيا رقمية أذابت المسافات وقلّصت الفروقات في نشلها من معتقدات بالية كالشعوذة والحذلقة لتحقيق مآربها. ويتنامى الخطاب المسرحي في هذا العرض وتتطور الأحداث وتتعقد المواقف والمشاهد لتقدم بحثا نفسيا عميقا عن الذات الإنسانية الضعيفة والمحبطة التي تسعى إلى الخلاص والبحث عن مرجع آمن بشتى السبل، واستطاع المخرج في هذا العمل أن يستوفي كل متطلبات العناصر الفرجوية، فأضفت اللوحات الاستعراضية المستوحاة من التراث الشعبي التونسي مسحة جمالية خاصة على العرض وكانت جرعة الموسيقى الصوفية والكوريغرافيا والروائح العبقة التي تجاوزت جدران المسرح البلدي كفيلة لتحلّق بالمتفرج إلى عالم شاسع يسوده السحر والعادات المذمومة ووضعه في إطار ما يسمّى ب»الزاوية»، ذلك المكان الذي انطلقت منه الأحداث وتفاعلت فيه الشخصيات، منها «عبد الجبار» العرّاف العصري المتعدد المواهب الكلامية والخبير بشتى فنون العلاج الروحاني والنفسي، يحاول أن يوهم الجميع بقدرته على شفاء الناس من الأمراض المستعصية وانتشالهم من الضياع والعراقيل التي ترصدهم. هذه المسرحية تفاعل مع أحداثها الجمهور وصفق لها طويلا. كافيتيريا مصرية للتواصل بحوار فني بين الكلمة والجسد، تابع جمهور أيام قرطاج مسرحية «كافيتيريا» من مصر، والتي طرحت قضية التواصل الإنساني وضعف العلاقات البشرية، وقد اعتمد هذا العمل المسرحي الذي استغرق 45 دقيقة، على فكرة أو حالة يمكن أن يعيشها الفرد في حياته اليومية، فالكافيتيريا فضاء عمومي يعكس صورة مصغّرة للمجتمع الذي تأثر سلبا بالمتغيرات الاقتصادية والفكرية، لا سيما في مستوى العلاقات البشرية التي تدنت وأصبحت جافة ومرتبطة بالمادة والمصالح الضيقة في أغلب الأحيان. في الكافيتيريا يجتمع الأفراد في إطار مكاني واحد وتكون أجسامهم قريبة لبعضها البعض، إلا أن كل منهم يعيش في عالمه الخاص الذي لا يرى فيه سوى نفسه، ولا يحس فيه سوى بمعاناته، فيعيش حالة اغتراب في المجتمع، ويتولد صراع التواصل مع الآخر. وإلى جانب اضطراب عملية التواصل بين البشر، طرحت هذه المسرحية حالة الضياع النفسي التي يعاني منها الإنسان، فهو يتخلى أحيانا عن شخصيته الحقيقية ليرتدي أقنعة بديلة في تعامله مع الآخر، وهو ما عمّق الهوة بين البشر، وخلق بينهم مساحات شاسعة كبّلت المشاعر الإنسانية، وعطلت الاتصال والتفاعل بين الأفراد. في مسرحية «كافيتيريا» تخاطب الممثلون بلغة الجسد، فكانت حركاتهم مفعمة بالإيحاءات والدلالات التي تناغمت مع الاختيارات الموسيقية والضوئية، لتتكامل مكونات التصور السينغرافي بإمضاء المخرج محمد فؤاد. المسرح الأفريقي بوجوه متعدّدة يتواصل حضور المسرح الإفريقي في «أيام قرطاج المسرحية» باعتبار أهمية التظاهرة وضرورة انفتاحها على تجارب فنية من مختلف البلدان للتعرّف على التجارب التي تعكس الواقع الإفريقي اليوم من خلال مسرحيات تقدم فنون الفرجة، حيث تم عرض أربع مسرحيات، الأولى من السنغال، وأخرى من الكونغو عن فرقة المسرح الوطني «دانيال سورافو» نص ايمي سيزار وإخراج سايبا لامين تراوري، وفي هذا العمل يجد المتفرج أحداثا واقعية شهدتها الكونغو في الستينات فترة طبعت بالأحداث السياسية والاجتماعية وهي أيضا فترة غليان قادت البلاد إلى الاستقلال ثم كانت ضغوطات المعارضة للحصول على جزء من السلطة. ومن بوركينا فاسو تقدم فرقة «مسرح الإخوة» ولمدة ثمانين دقيقة مسرحية «الفأرة المسمومة» نص جان بيار داوقو فنقاني وإخراج لوكا جيوفاني ماريا خوزي، ولمدة ثمانين دقيقة يُبرز هذا العمل أن كل الذين يعشقون السلطة يقع القضاء عليهم تدريجيا بواسطة فأرة مسمومة عملاقة، وتعطي هذه الفأرة صورة عن كيفية التسيير في الأنظمة الإفريقية الدكتاتورية، وكيف يمكن للمقربين من الحكام أن يكونوا من أول ضحاياهم. وتقترح مجموعة «فاسو للرقص والتمثيل» من بوركينافاسو مسرحية «بابيمبا» وهو عرض فني راقص، وكوريغرافيا «سارج ايمي كوليبالي» ويدوم خمسة وسبعون دقيقة يقدم ثلاثة رموز في تاريخ إفريقيا، من بينها شخصية «نيلسون مانديلا» كرمز للأمل والنصر، وهو عمل يقترح بحثا خلاقا عبر الرقص والصورة والحركة والمشاعر الإنسانية. أما العمل الرابع للقارة السمراء الذي عُرض في «أيام قرطاج المسرحية»، فهو حفلة موسيقية لمجموعة «بليك باسي»، التي تتألف من ثلاثة عازفين على آلات «الجيتار» والإيقاع والباص، ويعمل قائد الفرقة «بليك باسي» في عروضه الفنية على أن تكون الموسيقى تعبيرا عن التحريك.