تتحرك المجتمعات بجرأة الأمل، ولا حركة إيجابية بلا تبصر وصحة رؤية. أقصر الطرق أمام المتضرر من الحركة الإيجابية إعاقة الرؤية. بساطة المنطق النظري لا يتحتم أن تؤدي الى سهولة ما يترتب عليها عمليا، معوقات الواقع العملى أقوى من كل منطق وأى نظرية، خذ مثلا مقولة « لا يقهر التخلف إلا تغيير الواقع المتخلف»، هى من البداهة بحيث لا تحتاج الى برهان من خارجها، ومع ذلك ما عليك إلا أن تحاول التغيير لتدرك أن مقاوماته أصلب من حجة النظر. ستصدمك صعوبات كثيرة أسهلها (وما هو بالسهل) التدريب على غير المألوف، طالما التغيير تحوير للمألوف، هذا إذا تركوك تدرب. فلا بد أن يسبق التدريب توافق حول وجوب التغيير ثم اتجاهاته، توافق لن تعثر أبدا عليه بدون مشاركة أكبر عدد ممكن بالرأى والسماع. بعض صور المقاومات مفرطة فى لا معقوليتها مثل القول بأن التخلف لا ينصبّ إلا فى مجال العلوم الطبيعية والتقنيات، وبالتالي لسنا بحاجة الى تطورات إلا فى التعليم، وليت التعليم تطوّر فى هذا الاتجاه، كل تطوّراته فى ربع القرن الأخير كانت بعيدا عنه. وما هي إلا محاولات لإحباط الإصلاحات الضرورية من قبل من لا مصلحة لهم فيها وممن ستضرر مصالحهم بها. يقاوم البعض التغيير على ظن أنه متّهم فى التخلف وبالمسؤولية عنه، واقع الأمر لا أحد متهم أو مسؤول إلا تراكمات التاريخ التى لم يعد مجديا إتهامها أو محاكمتها، ميراث ثقيل طويل من الشلل الاجتماعى أقعد مجتمعاتنا عن الحركة، بسبب نقص رؤية ما هو أفضل طوال عصور لم تتوافر فيها ممكنات الرؤية، لحد ما أجدادنا غير ملامين أو لديهم من الأعذار ما يرفع الملام، أما نحن فما عذرنا ؟. فى كل حالة اجتماعية وكل نموذج اجتماعى يوجد المستفيد والمتضرر، لو أن الجميع مستفيدون لما طرح من الأصل سؤال التغيير، ولو أن الجميع متضررون لجرى التغيير بلا مقاومات ولا تردد. فى كل النماذج بلا إستثناء هناك مستفيدون ومتضررون، والمستفيدون غالبا فى مواقع تأثير تتيح لهم الإعاقة والتعطيل، ولا شئ عملى يهددهم، الخطر الوحيد المحتمل يأتيهم من حرية الرأى (باعتبارها طريقا لتسلل المنافسين على آذان أصحاب القرار والرأى العام) ولذلك هم أعداء طبيعيون لها. حرية الرأى قبل أن تكون ممارسة هى فكرة ومعنى، فكرة لا يمكن نقضها ومعنى يستحيل هزيمته، أما ممارساته فيمكن كبتها، ولن يعدم الكابت حجة، بعض الحجج تستحق الإنصات، وبعضها مستفز، يوم ما شاعت حجة ملكية الحقيقة ولما لم تعد مقبولة اخترعوا عدم جواز إقتراب غير المتخصصين من الحقيقة !، لأنهم كمتخصصين وحدهم القادرون على استنباطها، من منطلق (أعط العيش لخبازه) وأن السيارة لا يفهمها إلا ميكانيكى، الى آخر المغالطات التى لا تصمد لتدقيق، فما أنتم بخبازين ولا حرفيين إنما أصحاب رأى وإعمال نظر فى النص أو فى الواقع المعاش، وهذا حق متاح للجميع، والقول بسوى هذا الغرض منه إحتكار الرأى، وليس الرأى هو الغاية إنما إحتكار السلطة الأدبية المترتبة على إحتكار الرأى، وهى سلطة أعطوها لأنفسهم لم يمنحها لهم أحد لأنها لا تمنح، قوة الإقناع لا تمنح، الفرض التعسفى للرأى هو الممكن. سأفترض فرضا شططا بأن هناك من يملك الحقيقة، فلماذا يحرم الآخرين من حق الخطأ !؟. سيجيب أحدهم : حتى لا يشوش على الناس.. عجب !، عجب أن تظن أن قدرتهم على التشويش بأباطيلهم أقوى من قدرتك على الدفاع عن الحقيقة !، فلا يتبقى من وسائلك للدفاع عنها (وأنت المتخصص !) سوى منع الآخرين عن الكلام. فى جميع الأحوال لا يمكن إقناع صاحب مصلحة، لأن ما يحركه ليس البحث عن الحقيقة إنما أشياء أثمن عنده منها. المعيار فى النهاية دقة تشخيص المصلحة الاجتماعية وقيام درجة من التوافق حول أولوياتها، هذا لا يتأتى بمصادرة رأى لحساب آخر طالما هو عاقل متوازن وفى حدود الثوابت. مع يقينى بأن الخروج عن المألوف ليس سهلا، هو للفرد مرهق وصعب، وللمجتمعات أشد وأعسر ويحتاج لطول مران، فالمألوف يولد مع الوقت شعورا بالأمان، لذلك يصاحب أطوار التغيير قدر من القلق والخوف، من وجهة ما التغيير انتصار للأمل على الخوف، وتتحرك المجتمعات والأفراد بجرأة الأمل. كل شئ قابل لتعدد الآراء حتى التاريخ وهو المادة التى تكونت وتجسدت ولم تعد قابلة لتغيير أو إضافة، دون أن يمنع ذلك أن تستوعب عددا لا نهائى من الرؤى والتحليلات والنظرات، فما بالك بالواقع الجارى المتحرك.