في هذا المقال أود ان اقف أمام بعض الآراء والتعليقات التي قرأتها في صحفنا وسمعتها في اعلامنا المرئي حول كارثة جدة، أحب ان اقف امامها محللة، ومتسائلة، ومستغربة ومستنكرة لما ورد فيها، فمن تلك التعليقات التي استهانت بمشاعر الناس، ووصفت تفاعلهم مع الحدث بأنه نواح وبكاء وكأنها تريد ان تقول بانه تصرف ساذج لا يدل على نضوج الفكر وعمق الرؤية، اذ كان عليهم ان يُبادروا بوضع الحلول العملية بدل هذا العويل والانسياق وراء العواطف. نعم أنا ادعو الى ضرورة القفز على الآلام، وألا نبقى طوال وقتنا أسرى لاحزاننا، لكن ليس معنى هذا ان نبقى أناساً بلا إحساس. من حق اهل جدة ان يبكوا ويذرفوا الدمع السخين على ما حصل لهم من جراء الاهمال. فالفاجعة لا يمكن لأحد تقليصها من خلال عبارات لوم المنكوبين، والاستهتار بعواطفهم، وأن كل ما يقال ويكتب من ردود افعال انما هي حلول عاطفية، مع ترديد الاسطوانة المكسورة بأننا نحن العرب لا نجيد دائماً الا البكاء والعويل، هذه العبارة التي صارت تردد دون مراعاة لمقتضيات الاحوال، واصبحنا نسمعها بمناسبة وبغير مناسبة. وكأنها اسهل طريق للهروب من المسؤولية، وتعمية للأبصار عن رؤية الحقيقة. إن من يلومون الأهالي على البكاء أو الرؤية العاطفية والانفعالية لمعطيات فاجعة جدة انما تفوهوا بذلك لأنهم لم يعيشوا في قلب الحدث، ولم يشعروا بمعنى التشتت واليتم وفقدان الأهل والممتلكات التي افنى المواطنون حياتهم ليحصلوا عليها ثم وجدوا أنفسهم وقد ابتلعتهم أفواه الغش، وضرستهم أنياب الجشع من المسؤولين الذين سمحوا لهم بالبناء في مجاري السيول وشجعوهم على ذلك بتوفير مختلف الخدمات، وهذا غاية التدليس. ماذا يريد هؤلاء اللائمون من اصحاب النكبات ان يبتسموا ويرقصوا على الجراح، ويشربوا حتى الثمالة من كأس الآلام؟! نعم نناشد أهل المصاب بالصبر والتصبر، وان لا يستمروا في اجترار الألم، ولكن لا نلومهم على البكاء ولا على الحل العاطفي للكارثة ثم اين البكاء والعويل الذي يزعمونه، إن ما قرأناه على صفحات الجرائد، وعلى شاشات الشبكة العنكبوتية كان تصويراً للحقائق التي عجز اعلامنا المرئي عن ملاحقتها، وفضحتها مقالات الانترنت المصورة. إن تعليقات المواطنين لم تكن نواحاً بقدر ما كانت في معظمها تصويراً لموقف الاهالي من تلك الكارثة، فلماذا نسمي ابداء الرأي صراخاً وعويلاً اقول لاهل جدة ابكوا حتى تجف سيول جدة، ابكوا حتى تندثر بحيرة المسك، ابكوا حتى تتبخر المستنقعات وما تحويه من أمراض وكوارث بيئية، ابكوا حتى يتم سفلتتة جميع الطرقات، ابكوا حتى تنتهي مشكلة الصرف الصحي، ومشكلة صرف المجاري... ومشكلة.. ومشكلة... الخ ابكوا فلا حيلة لكم الا البكاء، ولكن اجعلوا آخر قطرة دمع حين تعلن نتائج التحقيقات، ويجتث الفساد من جذوره، ثم تعود عروس البحر الى التألق من جديد. واقول لاولئك المسؤولين الذين بيدهم الحل والربط، افركوا عيونكم واستيقظوا من سباتكم، وشمروا عن سواعدكم، وادرسوا الواقع المرير وضعوا الحلول العملية البعيدة عن العاطفة، فانتم من لا يحق له البكاء، اما المواطن فليس بيده وضع الخطط والبرامج، وليس بيده ميزانية لتنفيذ المشاريع. هو فقط لا يملك إلا ان يسمعكم صوت نحيبه، لعل ضمائكم تهتز لأنينه. ماذا يفعل المواطن الذي ليس بمقدوره ان يصلح الوضع إلا أن يقف على اطلال الأمل، يبكي واقعه المرير؟ والمقولة الثانية التي تعجبت منها، تلك التي بكت على القاتل كما بكت على القتيل، فعند الحديث عن الفساد الاداري الذي كان من اكبر اسباب الكارثة انزلقت عبارة من لسان بعضهم بأن علينا ان نفترض حسن النية فيما حصل، فهو لا يتخيل أن يكون قصد اولئك المسؤولين هو افساد مدينة جدة. اما درى هذا القائل ان حسن النية في العمل القيادي اذا زاد عن حده صار دروشة، والدروشة الادارية معناها عدم الحكمة وسوء التصرف الذي يؤدي بدوره الى كارثة حتمية. فلو أننا اتخذنا حسن النية مبدأ في التحقيق، سنخرج في النهاية بدون ادانة لاي جهة، لانها جميعها حسنة النية، وستغرق قضية كارثة جدة في سيول النوايا الحسنة.