لماذا يهوى البعض الحزن ويكره الفرح؟ لماذا يحبّذ الموت ولو كان جريمة تُقترف في حق النفس والأهل بالانتحار والتفجير، ويكره الحياة، وإن كانت بناءً للأوطان، وخيرًا يتدفق على الأهل والجيران؟ كل عام وأنتم أحسن حالاً، وأفضل عيشًا، وأهنأ بالاً، بمناسبة عامنا الهجري الجديد، الذي بدأ قبل أيام، وكلنا آمال في أن نتجاوز ما جرى في عامنا المنصرم من مآسٍ وانكسارات، وأن تزول عنا آثار مآسيه، التي لا يزال بعضنا هنا في جدة من هولها يترنح، وأعظمها أثرًا فاجعة جدة، التي آثارها حتى اللحظة لم تزل بعد، بل لعل الخسائر لم تُحصَ بعد، رغم مرور أكثر من ثلاثة أسابيع، ورغم أن لنا إخوة يسدون علينا منافذ الفرح، حتى ولو كان بعودة ذكرى حدث أقام الله لنا به دولة، وجعل منا أمة ناهضة، تؤسس للدنيا كلها حضارة، تفيد منها أزمانًا، ألا وهو حدث هجرة سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، لأنه فقد حرية التعبير عن معتقده، وما يدعو إليه بمكة، هو ومَن آمن معه من صحبه الأول رضي الله عنهم، وكأنه يشرع لنا أن الحرية أثمن من الأوطان، إذا سيطر عليها مَن يفرض القيود لإلغاء كل الحريات، فلا جهاد مع ذلٍ، ولا نصر مع قمعٍ واستبدادٍ، وهذه الذكرى التي تنعش النفوس، يحتفي بها عالمنا الإسلامي كله من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ولا يرى أحد أنها تنتقص من العيدين فطر وأضحى، خاصة في هذا العصر الذي تراكمت فيه الهموم على سائر المسلمين، والمسلمون يعللون النفس بأنه مع الحرية ستتولد عندهم القدرة على العمل الجاد للنهوض بالأوطان، فكيف بهم إذا فُرض عليهم من القيود ما يلغيها، حتى في مثل هذا الأمر اليسير أن يفرحوا بعود الذكرى لهجرة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم كل عام، فيفتون أن العيد عيدان فطر وأضحى، ولا فرح بعدهما يُشرع، حتى أن أعياد الأوطان عندهم من الكبائر، هكذا فهم القوم الدّين، ووجّهوه الوجهة التي يريدون، والأفراح في زمن الأتراح لم يعد لها وجود، إلا أن تكون ذكرى لحدث عظيم وقع في الماضي، بعد أن استحال حدوث مثله في الحاضر أو المستقبل المنظور، يستعيد الحزانى سرورًا بذكرى فرح مضى في سالف الأزمان، والسؤال الأهم: لماذا يهوى البعض الحزن ويكره الفرح، لماذا يحبّذ الموت ولو كان جريمة تُقترف في حق النفس والأهل بالانتحار والتفجير؟ ويكره الحياة وإن كانت بناءً للأوطان، وخيرًا يتدفق على الأهل والجيران؟ وكل عام وأنتم أهل لكل إصلاح تمتد به يد النزاهة في هذا الوطن الغالي، كل عام وأنتم أهل لكل تغيير ينهض به النبلاء في هذا الوطن قا دة ومواطنين، نحو الأفضل الذي نستحقه جميعًا، كل عام وأنتم تتمتعون بكل الحقوق، التي شرعها الله لكم، وأقرّتها كل نظم البلاد، غير منقوصة ولا ممنوعة، كل عام وأنتم تقومون بكل ما يجب عليكم تجاه صون أمن واستقرار هذا الوطن، والنهوض بالحياة فيه، كل عام وأنتم تسلمون من كل الشرور، تفرحون بكل مناسبة للوطن، ولا تخشون لوم أحد أو اتّهامه لكم بمخالفة الدّين، وأنتم الأحرصون على دينكم، وكل عام وأنتم تسلمون من داء الإرهاب الفكري من أي جهة صدر، الذي يتسلط به البعض إن كان لهم سلطة مباشرة أم لم يكن لهم منها شيء، حتى تنعقد ألسنتهم فلا يفصحون عن ما يختلج في نفوسهم من حق أو خير، خشية ألا يرضى مَن يمارسون هذا الإرهاب، فإذا كان التصريح بالرأي حسب الأصول المعتبرة، يطرحه صاحبه ويدعمه بالحجة والبرهان، سواء أكان الرأي دينيًّا أم دنيويًّا، وبالطرق السلمية، فمثله لا يجب أن يقمع أو يعاقب، أو يهدد في مورد رزقه، ولا أن يتكالب على من طرح رأيًا مخالفًا الذين يتبنون منهج الإرهاب الفكري، ولهم وسائلهم التي لم تعد تخفى على أحد، والتي صُلبها تُهم لا يقوم عليها دليل بمخالفة الدّين، ثم قد تتصاعد إلى تهم ببدعة وكفر ونفاق، أمّا الوقوع في الأعراض فتلك طريقة منهجية لأصحاب هذا المنهج القبيح، بل ويبلغ الحد بهم لتحرير العرائض بطلب إقالة كل مَن لا يخضع لإرهابهم من منصبه، ويشكلون الوفود لتزور مسؤولين في مناصب دينية، وأخرى إدارية للمطالبة بإقالة مخالفهم الرأي، إضرارًا به، ونزوعًا شريرًا لإلحاق الأذى به، ويتكرر فعلهم هذا باستمرار ودون نكير. وللأسف تجاه موظفين حتى في المناصب العليا، إن الاختلاف سنة كونية لا يمكن إلغاؤها، وكذلك واتساع مساحة حرية الرأي والتعبير، وهو الأمر الذي يحدث بإذن الله، وإلاّ خسر الوطن أهم إنجازاته، وهو ما لا نرجو أن يحدث. والله ولي التوفيق.