أثلج صدورنا مرسوم خادم الحرمين الشريفين بتشكيل لجنة لمحاسبة كل من قصر في أداء عمله حتى وقعت كارثة الغرق بجده، وهو قرار قوي وشجاع وصريح وشفاف وكلنا أمل في اللجنة الموقرة برئاسة أمير مكة أن تقول كلمتها وتبرئ ذمتها أمام الله ثم أمام الحاكم والشعب، فكلنا عشنا الفجيعة ونحن نشاهد جده تغرق ويموت أهلها وتُهدر ممتلكاتها ويُروع سكانها بأمطار ليست كارثيّة فلا فيضانات ولا زلازل ولا براكين ومما أجج المصيبة أن بعض من كان على رأس الوظيفة والمسؤولية من قبل وتقاعد أو ذهب بأسرته خارج البلاد أخذ يطلق أعذاراً ومبررات لا تقنع عنزاً ولا بقرة فضلاً عن العقلاء الأسوياء فبعضهم يذكرنا بالقضاء والقدر حتى يُعفى من المحاسبة والمسؤولية وعجائز نيسابور تفهم أن كل شيء بقضاء وقدر لكن نحن نفهم أن هناك تقصيراً وإهمالاً وفساداً وتهرباً من المسؤولية وغشاً لولي الأمر والأمة حصل بلا شك، ونحن ننتظر من اللجنة المسؤولة أن تضع اليد على الجرح وأن تصف لنا الداء وأن تخبرنا بالعلة والسبب، ويسعدنا أن نشاهد المقصرين والمهملين والمتلاعبين الذين ابتزوا الدولة والناس وقصروا في أداء الأمانة أن يُقدموا للعدالة وأن يؤخذوا للمحاكمة؛ ليكون درساً تاريخياً وقصة من قصص الفاروق عمر بن الخطاب ومشهداً عظيماً يشرّف عبدالله بن عبدالعزيز ودولته أمام العالم، قد تعبنا من أناس لا ضمائر لهم ولا ذمم وإنما همهم الالتفاف على قرارات الدولة والضحك على الذقون والتمادي في التلاعب بأرواح الناس وأموالهم وممتلكاتهم، لقد طمأننا هذا القرار التاريخي من الملك وأشعرنا أن هناك من هو كفؤ بتحمل المسؤولية وأداء الأمانة، وقد جاء القرار قراراً حكيماً صارماً حازماً شرعياً واضحاً مدعّماً بالنصوص، وكان المأمول أن تكون مدينة جده أروع وأجمل مدينة في الشرق على الإطلاق، بل كما قال أحد الكتّاب في هذه الجريدة: إن جده هي المدينة المؤهلة بالفعل لتكون مدينة السحر الشرقي؛ لأنها أخذت من مكة عطر القداسة ومن البحر روعة الشواطئ ومن الصحراء بهاء الطبيعة ومن الجبال فتنة الشموخ ثم إنها أكثر مدن العالم التي يقصدها مليار ونصف المليار من الحجاج والمعتمرين والزوار والتجار والسياح ليلاً ونهاراً، فلماذا لا تكون جده في صخب لندن وضجيج نيويورك وتنظيم باريس ونحن نملك قدسية المكان وذكاء الإنسان ووفرة المال مع كثرة الوافدين، وربما كانت هذه النازلة الضارة نافعة بإذن الله لنعيد جرد الحساب وتسديد فاتورة التقصير وصحوة الضمير فما تقدمت شعوب العالم إلا بمحاسبة المقصر وإيقاف المتلاعب عند حده والقضاء على الفساد الإداري والمالي، إن هذا القرار التاريخي ليس له تفسير إلا إحقاق الحق وإزهاق الباطل والوقوف مع المنكوبين والمصابين ونصرة المستضعفين وإظهار الحقيقة جلية للعيان، وسوف يكون هذا القرار درساً لكل مؤسسات الدولة على منهج: مصائب قوم عند قوم فوائد، وسوف يتحسس كل مقصر رأسه ويضع أصابعه على رقبته ويصيح: كاد المريب أن يقول خذوني، وسوف يفهم كل مستهتر للأمانة أنه لن يفر من الحساب والعقاب، أما طائفة أهل التبرير والتزوير الذين خافوا من المساءلة يوم كانوا على رأس العمل فأخذوا يصدرون لنا فتاوى عقيمة سقيمة منها إحالة المسؤولية على الطبيعة أو على أن السيول كانت مفاجئة أو على إدانة المواطنين وأنهم لم يأخذوا الحيطة والحذر؛ ليهربوا هم بجلودهم من العدالة، إن هذه الفتاوى الشيطانية سبق لها الأستاذ إبليس حينما ورّط الإنسان بالخطيئة ثم قال: (إنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)، أهلاً وسهلاً بالعدالة ومرحباً بالوضوح والشفافية والمساءلة والمحاسبة، وقريباً إن شاء الله سوف نسمع ونشاهد الاستدعاءات ونعرف الخلل ونصل إلى العلة، وفّق الله اللجنة لبراءة الذمة وقول كلمة الحق والفصل في القضية؛ لتستحق ثواب الله وثناء الحاكم وشكر الأمة وراحة الضمير والذكر الحسن وشعارنا (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ).