لسنوات طويلة مضت ، كان من الصعب أن تنشر الصحف السعودية أخباراً عن انتحار خادمة أو جريمة سرقة ترتكبها عصابة من هنا أو هناك. وعلى الرغم من خطورة هذا التعتيم لأن أي مجتمع ليس معصوماً من الخطأ وأفراده ليسوا من الملائكة يفعلون ما أمرهم الله به إلا أن هذا النهج ظل سائداً لفترة ليست بالقصيرة على كافة الأصعدة ، مما أسهم بغير قصد في إفراز ما يطلق عليه تجاوزا «مجتمع الفضيلة والطهر والنقاء» ، في ظل تجاهل طبيعي لوجود الفساد في اي مجتمع مثلما وجد بجوار الخير منذ عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم . وارتبطت هذه الصورة الذهنية في الكثير من الأحيان بأداء المسؤولين إذا كان يصعب الحديث عن مسؤول من الدرجة الثانية أو على المرتبة الخامسة أو السادسة فاسداً أو ارتكب مخالفة ما لظروف ما أو نتيجة جينات داخلية دفعته إلى السرقة او الرشوة او الاختلاس . وكان من نتاج سيادة هذه النظرة السلبية أنه حينما تفوح رائحة فساد حول مسؤول ما تكون المحصلة النهائية لذلك هي تنحيته في ظروف غامضة «وبناء على رغبته» حفاظاً على مشاعره لينعم برغد العيش بعد أن عاث فساداً إدارياً ومالياً وتنظيمياً لسنوات طويلة. في وقت كان من الضروري أن يحظى بالمساءلة المشددة كي تعم قاعدة الثواب والعقاب التي بدونها لن يتطور وطن إلى الأمام، إذ يقول الله تعالى في محكم التنزيل : «إن الله لا يحب المفسدين». وكان من المؤسف له أن تتدخل العاطفة في الكثير من القرارات لتعلو على مصلحة الوطن في ظل أخذ غالبية القرارات بصورة ديكتاتورية ومن المكتب دون النظر إلى الواقع المعاش. يقول العقلاء في هذا الصدد لو كانت هناك شفافية بحق لانتهت أزمة تصريف مياه السيول والأمطار في جدة منذ 30 عاما إبان فترة الطفرة الأولى، وكانت التكلفة حينها لا تزيد على مليار ريال وفق أسعار هذه الفترة لا أن يفاجئنا أمين جدة بعد 30 عاماً بأن ما نفذ منها على ارض الواقع لا يزيد على 30% وأن جدة لا زالت بحاجة إلى مليارات أخرى لإتمام الشبكة، لنبرر أي خطأ أو تهاون وكأن شوارع جدة وأزقتها لم تجأر من الحفر العشوائي الطائش لسنوات طويلة دون جدوى. لقد أحسن الملك عبدالله بن عبدالعزيز بقراره الحاسم بالتحقيق في كارثة أمطار جدة التي خلفت 140 ضحية علاوة على المصابين والمتضررين بشكل منظور أو بغير ذلك. وإذا كان الحساب عنوان المرحلة كما يمكن أن نستشف من القرار للوهلة الأولى فإن المتابع لا يمكنه أن يبدي مخاوفه التي لم تغب عن المسؤول في أي حال من الأحوال ومنها : ** الخوف من الفتور الذي قد يعتور أعمال اللجنة بعد فترة من الزمن فلا تصل إلى نتائج قاطعة خاصة وأن المؤشرات كشفت عن سباق إعلامي لغالبية المسؤولين السابقين لتلميع أنفسهم وتبرئة ساحتهم من أي قصور يبدو أنه هبط من السماء أو خرج من الأرض، لذا ينبغي أن تعمل اللجنة في سرية تامة مع منع الجميع من الإدلاء بتصريحات يمكن أن تؤثر على عملها. ** غياب الشفافية وتلك من أبرز معوقات التطوير ولهذا ينبغي للجنة أن تكون على دراية وقراءة لواقع جدة بصورة دقيقة، بحيث لا تكون سهلة الانقياد لمدافع التبريرات التي يملكها المسؤولون على كارثة جدة. يقول أحد خبراء الاقتصاد إن قاطرة الإصلاح لكي تمضي سريعاً يجب أن توضع على قضبان صالحة وبعقلية إدارية جديدة عن السائد فهل ستسعى اللجنة إلى تحقيق هذا الهدف بالفعل أم سنظل ندور في حلقة مفرغة. ** إذا كان الفساد بدأ للعيان في قضية تصريف أمطار جدة فإننا نؤكد أنه موجود وقابع في كل دائرة حكومية بلا استثناء (الصحة – التعليم – الجمارك – البلديات).. وأن من الضروري الطرق على الحديد وهو ساخن الآن بتشكيل لجان ذات صلاحية قوية للتفتيش في المشاريع المتعثرة في هذه القطاعات وستكتشف هذه اللجان ان الكارثة عامة ولا تخص جدة وأمطارها فقط. 3 تريليونات حجم الفساد يقول د. ماجد قاروب رئيس اللجنة الوطنية للمحامين في تصريح له منشور في 4 صفر 1428ه «إن حجم خسائر المملكة من الفساد تقدر بحوالى 3 تريليونات ريال نتيجة غياب التخطيط والمتابعة، وهو ما يعني 3 اضعاف الناتج المحلي الاجمالي لثلاث سنوات متتالية وميزانية المملكة لثماني سنوات كاملة» . لقد جعل الفساد الإداري المملكة تأتي في مرتبة متراجعة في تقارير منظمة الشفافية العالمية إذ في عام 2007م جاءت في المركز 78 من أصل 160 دولة في العالم. والواقع أن للفساد صوراً ومظاهر لا يمكن حصرها في قالب واحد إذ إن من بينها استغلال النفوذ الوظيفي والرشوة وإساءة استخدام السلطة وتجاوز حدود الأنظمة واللوائح. ولعل الأمل حالياً معقود على الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد لتحصين المجتمع ضد الفساد من خلال إعلاء قيم المساءلة لأي مسؤول كائنًا من كان. الاعتراف بالفساد وانطلاقاً من الموضوعية وحرصا على عدم قتامة الصورة وعدم جلد الذات أكثر مما يلزم ينبغي إرساء قاعدة مفادها أن الفساد مشكلة عالمية ولا توجد دولة واحدة خالية منه وأن النجاح الحقيقي في مواجهته ينطلق أولا من الاعتراف الواضح بنسبة الفساد الموجودة ومعالجتها بشفافية لأن إخفاء الفساد أهم وأخطر من الفساد نفسه. وتبقى المطلقات لذلك تتركز في وضع قانون واضح لحماية المال العام وإنشاء هيئات مستقلة بعيدة عن أي جهات للمحاسبة ومعرفة مصادر إنفاق الميزانيات للمشاريع بعض التطبيق على أرض الواقع. الإنصاف ضرورة لكن ، وللإنصاف يبقى السؤال مطروحاً في فساد معالجة مشكلة تصريف الأمطار في جدة على وجه الخصوص. من الذي ينبغي أن نساءل في أزمة جدة بالضبط : هل هم مسؤولو الأمانة المعنيون مباشرة بتنفيذ المشاريع أم مسؤولو الشركات المنفذة للمشاريع، أم المراقبون أم هيئة الرقابة والتحقيق، وهل لوزارة المالية علاقة وكذلك مجلس الشورى ؟ . وفي اعتقادنا يبقى على اللجنة المكلفة بالتحقيق أن تعين إطار عملها العام لأن المسؤولية إذا كانت مباشرة على الأمانة فإنها تضامنية بين جميع هذه الجهات التي أقرت الصرف واستلام مشاريع مهترئة لا تسمن ولا تغني من جوع. لقد ثبت أن تجميل المشاريع من خلف المكاتب للتصدي والرد على ما يكتب في جميع الصحف باستماتة لم يعد شعار المرحلة الراهنة التي يجب أن تكرس للحرب على الفساد بحق إذا أردنا إصلاحاً على الطريق الصحيح. لقد انتصر خادم الحرمين للمتضررين في كارثة جدة بقراره الشامل بتشكيل اللجنة وتعويض أسر المتوفين بمليون ريال وغيرها . ينبغي هنا أن نقف على ثنايا بعض ما جاء في القرار لاسيما وأن البعض بدأ يتنصل من مسؤولياته مبكراً مبرراً ذلك بأن ما حدث كان فوق الطاقة وأنه قضاء وقدر وبالتالي تضيع دماء الضحايا وهذه الأمور هي: * إن فاجعة جدة لم تنتج عن أمطار يمكن وصفها بالكارثية. * الأمطار التي سقطت على جدة تسقط وبشكل يومي على دول اقل من المملكة في الإمكانات والقدرات ولا ينتج عنها أي خسائر أو أضرار مفجعة. * إن حجم الكارثة كان كبيراً على المنشآت العامة والممتلكات الخاصة. ****لقد أصدرت المملكة 33 نظاماً لمكافحة الفساد كما يقول رئيس هيئة الرقابة والتحقيق، ولكن السؤال هو : هل نكتفي بإصدار الأنظمة دون تفعيل أم نتحرك لتطبيقها على أرض الواقع ؟، وهل رصدت الجهات الرقابية عيوب مشاريع جدة ؟ وإذا كانت قد فعلت ، هل اكتفينا بتدبيجها في الكتب لعرضها على المسؤول فقط والتقاط الصورة التذكارية؟. إن الأمانة تقتضي تطبيق مبدأ الحساب والعقاب وليس العزل «بناء على رغبته» حتى لا تجرح مشاعره، فالمسؤولية أمانة وتكليف قبل أن تكون تشريفًا.