أدَّت القصيدة الجاهلية دورها بامتياز رفيع وأسست للقصيدة البيتية؛ لتكون النواة التي ستتفرع منها أشكال شعرية أخرى، وتضعنا أمام السؤال التالي: هل كان امرؤ القيس أو الأعشى أو عنترة وسواهم من شعراء الجاهلية على عِلم بأن ما ينشدونه من قصائد هي على أوزان البحور الشعرية 16؟ّ! لن نجد الإجابة على هذا السؤال في واقع الأمر إلاّ بعد الإسلام وفي العصر الأموي تحديدًا عند شخص يقال له الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي أسس علم العروض وبحور الشعر؛ أي أن شعراء الجاهلية لم يعرفوا هذه البحور ولا أسماءها، وأن السليقة الشعرية وفطرتهم العربية ولغتهم السليمة وإيقاع الحياة العربية القديمة ورتمها المتقلب هو ما سارت عليه قصائدهم. ثم وفي العصر العباسي، سنجد أن بعض الشعراء يقبَلون من الفراهيدي علم العروض ولكن بعضهم لم يقبَل ذلك، ومنهم الشاعر الكبير أبوالعتاهية الذي لم يك لينصاع تمامًا لبحور الخليل وحينما كان يُسأل عن ذلك كانت إجابته الشهيرة (أنا أكبر من العروض). سنترك المشرق العربي الآن ونرحل عبر الزمن إلى الأندلس حيث قامت الثورة الشعرية الأولى على بحور الخليل وأوزانه على يد شعراء الأندلس؛ ليولد فن شعري جديد يكسر واقعية الشكل الشعري العمودي ويؤسس لشكل شعري جديد هو «شعر الموشحات» على يد مقدم بن معافى القبري كما تشير المصادر التاريخية، وهذا الكسر لهيكل القصيدة العمودية حدث لسبب بسيط هو: أن الشعر كائن متجدد ينتقل بانتقال الشعوب وناسها وطريقة تفكيرها ويخضع لإيقاع الحياة وتقلباتها المختلفة، وليس كما يدعي بعضهم أنه هدم للتراث وتشويه للأدب العربي. سنعود وعبر الزمن أيضًا إلى سقوط بغداد في العام 656ه على يد المغول وهزيمتهم على يد المماليك وتولي الأتراك فيما بعد زمام الحكم في البقاع العربية، وقد ضعف الشعر العربي وقلَّت قيمته لأسباب كثيرة ومختلفة وتراجعت مواهب الكثير من الشعراء وترمّل بعضهم، ما سبب انحدارًا كبيرًا للشعر والأدب العربي عمومًا وتغيبًا أكبر في سنوات كثيرة. سأرحل معكم إلى القرن التاسع عشر والعشرين الميلاديين حيث ظهرت مدارس شعرية مجددة هي: الديوان والمهجر وابولو، ودعوة خليل مطران إلى التجديد في الأوزان والمعاني والأفكار ومواكبة الشعر لعصره؛ وقدمت هذه المدارس خدمة كبيرة للشعر وأعادت الهيبة للأدب العربي من جديد. وبالانتقال إلى العام 1947م سنجد أنه كان عامًا مختلفًا في الشعر العربي الحديث؛ فقدمت نازك الملائكة قصيدة «الكوليرا» وقدم بدر السياب قصيدة «هل كان حبًا» متكئيَن على التفعيلة الواحدة من البحر الشعري الصافي وولدت قصيدة التفعيلة لتكسر مرة أخرى واقعية الشكل الكلاسيكي وهذا أيضًا يحدث كما قلت في السطور السابقة بسبب الشعر نفسه ومواكبته لعصره وليس هدمًا أو تشويهًا للشعر أو الأدب. لم يمضِ سوى أقل من عشرة أعوام على ولادة قصيدة التفعيلة والتي لم تأخذ مداها وحقها في الحضور حتى ولد شكل شعري آخر هو «قصيدة النثر» في العام 1954م، لاستكشاف الصور الشعرية الموجودة في لغة النثر واستخدامها لدواعي شعرية خالصة، على يد محمد الماغوط وادونيس وأنسي الحاج وآخرين وتوجتها مجلة شعر في العام 1957م؛ ما سبب التباسًا على الناس بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر بمسمى «الشعر الحر» وظهرت الخصومة بين الأدباء والشعراء، لكن الشعر ينسجم بطبيعة الحال مع إيقاع الحياة التي يعيش فيها. سنصل اليوم إلى القصيدة الرقمية المنبثقة من الأدب الرقمي لتبشّر بشكل جديد في الشعر العربي من خلال المؤلف الرقمي - كما تسميه الدكتورة زهور كرام – ؛والذي يسعى إلى استثمار وسائط التكنولوجيا الحديثة ويشتغل على تقنية النص المترابط ولا يعتمد فقط على الرغبة في الكتابة والإلهام الذي يرافق عادة التخييل في النص المطبوع أو الشفهي.. أي أنه كاتب عالِم بالثقافة المعلوماتية ويتقن تطبيقها في علاقتها بفن الكتابة، ويحضر باعتباره مؤلف النص التخييلي الرقمي بمجموعة من المواد: اللغة، الصوت، الصورة، الوثائق، ولغة البرامج المعلوماتية؛ لينتج حالة نصية تخييلية غير خطية لا يتحقق نوعها وجنسها التعبيري إلا مع القارئ / القراءات... أي أننا إزاء مبدع له معرفة بالعلم وهذا جديد في نظرية الأدب التي لم تكن تنظر إلى المبدع في إطار تكوينه العلمي بقدر ما كانت تقف عند نضج متخيله وإبداعية نصه -كما تقول الدكتورة زهور كرام-. من المؤكد أن الشعر يتطور ويتجدد في المكان والزمان الذي يعيش فيه ولا يكتفى بارتداء الأثواب القديمة وينتظر من الشعراء إلباسه الزيّ المناسب الذي يليق به في الحياة التي يعيش فيها وعلى المتلقي أن يستقبله على هذا الأساس ويتفاعل معه بالروح الفنية الرفيعة، بعيدًا عن التطرف الأدبي والتعصب الشعري الذي لن يفيد في شيء سوى البقاء في الماضي والرهاب من المستقبل.