إذا كان الشعر في البلدان المتقدمة تكنولوجياً قد تراجع إلى الخلفية تماماً في المشهد الثقافي في تلك البلدان لتحل محله الرواية والدراما التلفزيونية، وأنواع أخرى كانت ثانوية في مراحل سابقة مثل المذكرات واليوميات والسير الذاتية والمقالات الساخرة، فإن الشعر ما زال ذا سطوة في المشهد الثقافي العربي. وإذا كان الشعر تراجع في حسابات الناشرين العرب، وأصبح أقل مقروئية من الأنواع الأدبية الأخرى، فإنه سيد الأنواع الأدبية في المهرجانات حيث يستقطب شعراء كمحمود درويش آلافاً من المستمعين الذين يحتشدون لسماع الشعر والاستمتاع بإيقاعاته. ولربما يعود ذلك إلى طبيعة الشعر التلقائية وقدرته على مخاطبة الوجدان بصورة مباشرة... تطور الشعر العربي في مراحله الذهبية زمن الجاهلية وفي العهدين الأموي والعباسي ليصبح كتاب العرب وسيرة وجودهم في التاريخ. ويمكن من يقرأ شعر امرئ القيس وطرفة بن العبد ولبيد بن ربيعة والحارث بن حلزة اليشكري وعمرو بن كلثوم، لنعد أسماء قليلة من شعراء الجاهلية، ومن يطلع على تجارب شعراء مثل عمر بن أبي ربيعة وأبي نواس والبحتري وأبي تمام والمتنبي والمعري، لنعد قليلاً الى شعراء القرون اللاحقة بعد ظهور الإسلام وانطلاق حملات الفتح الإسلامي نحو أرجاء الأرض كافة، واختلاط العرب بالأمم الأخرى واكتساب الشعر العربي سمات حضرية تضعه في حالة تضاد مع البيئة الصحراوية التي تتسم بالندرة وقلة العناصر، يمكن ذلك المرء أن يلحظ التغيرات الكبرى التي طرأت على شكل القصيدة العربية سواء على صعيد الإيقاع الذي اكتسبه الشعر في مراحل صعود الحضارة العربية الإسلامية زمن الأمويين والعباسيين، أو على صعيد اكتساب النثر سمات شعرية ميتافيزيقية ذات طبيعة سرية في كتابات المتصوفة من أمثال الحلاج وابن عربي وبشر الحافي والسهروردي والنفري، ما فتح الباب واسعاً أمام قصيدة النثر العربية في القرن العشرين كي تزاوج بين مصادرها الأوروبية - الأميركية، في أشعار بودلير ورامبو ولوتريامون وسان جون بيرس وإدغار ألن بو ووالت ويتمان، ومصادرها العربية ممثلة في نثر المتصوفة العرب بخاصة ابن عربي والنفري، اضافة الى ناثر عربي كبير كأبي حيان التوحيدي. لكن الثورة الشكلية التي ضربت الجذور الإيقاعية للشعر العربي تتمثل في ما حدث في نهاية أربعينات القرن الماضي، فقد انفجر الشكل الإيقاعي الذي ساد على مدار حوالى ألفي عام. كان الشعر العربي، كما حفظته لنا دواوين الشعراء وكتب السير والتاريخ والموسوعات العربية القديمة، مثل كتاب"الأغاني"وكتب"الحماسة"، وما يسمى في النقد العربي القديم وپ"طبقات الشعراء"، قد استقر على طبيعته الإيقاعية المتمثلة في البنية الشطرية والقافية المتكررة. لكن شعراء أربعينات القرن الماضي، كنازك الملائكة وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري وعبدالوهاب البياتي وأدونيس وخليل حاوي وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي، ومن بعدهم شعراء الخمسينات والستينات والسبعينات كسعدي يوسف ومحمود درويش وسميح القاسم ونزيه أبو عفش وممدوح عدوان ومحمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وغسان زقطان وغيرهم من أقطار عربية مختلفة، قاموا بانتهاك تلك البنية المتوارثة المستقرة لتصبح التفعيلة المفردة، وهي أساس البنية الإيقاعية في الشعر العربي، هي البنية التي يستند إليها الشعر الحر، أو شعر التفعيلة استناداً إلى تلك البنية الإيقاعية الصافية غالباً الممتزجة بتفعيلات مقاربة في أحيان قليلة. صاحب تلك الثورة الشكلية اندفاع باتجاه الاستفادة من النص القرآني، والاستفادة من الأمثال والحكايات والأبطال الشعبيين، واستخدام مفرط للأسطورة والخرافة، لإضفاء أبعاد على القصيدة العربية في القرن العشرين تجعلها تقترب من الحياة الراهنة والموروث العربي في الوقت نفسه. من جهة أخرى تبدو قصيدة النثر بأعلامها في الشعر العربي المعاصر: محمد الماغوط وأدونيس وأنسي الحاج وتوفيق صايغ إضافة إلى الأجيال التالية التي جاءت بعدهم كسليم بركات وعباس بيضون ووديع سعادة وعبده وازن وحلمي سالم وأمجد ناصر ونوري الجراح ووليد خازندار وزكريا محمد محاولة للتواؤم مع إيقاع العصر. فهي تحاول تغيير تراتبية العناصر المكونة للشعرية بحيث يصبح السياق هو المحدد الأول للشعرية المهملة العناصر الشكلية التي استقرّ عليها النوع الشعري العربي لعصور طويلة"وهي بذلك تولد شعرية الموقف والحالة، أي الشعرية النابعة من سياق تأليف الكلام لا من العناصر الملصقة على جسد الكلام من قافية ووزن وتناغم داخلي. إن جماليات العصر الحديث هي جماليات التنافر وليست جماليات التناغم، وكل من يحاول إضفاء انسجام على العصر يخطئ شخصية هذا العصر وطبيعته المعقدة. لكن المراقب لواقع الأنواع والأشكال الأدبية العربية في الوقت الراهن لا يستطيع أن يتوصل إلى أن قصيدة النثر يمكن أن تكون بديلاً للأشكال الشعرية العربية الأخرى، خصوصاً أن ما أنتج حتى الآن في إطار قصيدة النثر لم يستطع إزاحة قصيدة التفعيلة عن عرشها، فلم يولد حتى هذه اللحظة شاعر مكتمل الأدوات فرض على الذائقة الشعرية العربية أن تتغير بسبب قصيدته النثرية، كما حصل مع بودلير ورامبو ووالت ويتمان كأمثلة مأخوذة من الشعرين الفرنسي والأميركي. ومع أن شاعراً برياً مثل الراحل محمد الماغوط استطاع في خمسينات القرن الماضي وستيناته اختراق دائرة الهيمنة على المجموعات القرائية التي مثلتها قصيدة التفعيلة، إلا أن الماغوط ظل وحيداً بسبب نخبوية ممثلي قصيدة النثر العربية وعلى رأسهم أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وتوفيق صايغ. في المقابل استطاع شعراء التفعيلة، وعلى رأسهم بدر شاكر السياب وصلاح عبدالصبور وسعدي يوسف ومحمود درويش، أن يحققوا تواصلاً مستمراً مع جمهور الشعر العريض في العالم العربي. ومن ثمّ يبدو الحديث عن تراجع قصيدة التفعيلة بالقياس إلى قصيدة النثر وهو شيء يردده كتاب قصيدة النثر في العربية مدافعين عنه بحرارة واقتناع وكأن قصيدة النثر أصبحت أيديولوجيا قابلة للاعتناق نابعاً من وهم نظري، فما زالت قصيدة التفعيلة نفسها عاجزة عن اختراق محيط القراءة المهيمن في العربية، عاجزة عن إقناع المؤسسة الأكاديمية العربية بأنها قد أصبحت في بداية القرن الحادي والعشرين الشكل الأساس للكتابة الشعرية العربية. أما قصيدة النثر فلم تستطع فتح باب القلعة الأكاديمية العربية لتفرض نفسها نصاً مقروءاً في الأروقة الجامعية على قدم المساواة مع القصيدة العمودية التقليدية المتوارثة منذ زمن الجاهلية، ومع قصيدة التفعيلة كذلك التي اقترب عمرها من الستين عاماً نشرت قصيدة"الكوليرا"للشاعرة العراقية نازك الملائكة، والمكتوبة بشكل التفعيلة عام 1947. ولعل هذا الوضع هو ما يجعل قصيدة التفعيلة مرشحة كي يستمر تأثيرها في قارئ الشعر العربي وأن تظل فاعلة في الذائقة الشعرية العربية إلى أن يظهر شاعر في إطار قصيدة النثر يستطيع أن يحدث بنصوصه نقلة كبيرة تقلب المعايير التي نقيس بها الشعرية وتؤثر في الذائقة التي نمت عبر العصور. قصيدة التفعيلة إذاً، لا ما يسمى قصيدة الشطرين، هي المرشحة لتغيير الذائقة، على رغم المقاومة الشرسة التي واجهتها خلال ما يزيد على نصف قرن. وإذا كان البعض يراهن على عودة قصيدة الشطرين إلى واجهة المشهد الشعري العربي، فإن ذلك البعض واهم لأن تلك القصيدة التي ورثت البنية الإيقاعية للشعر العربي القديم، وكذلك أغراض ذلك الشعر من مدح وفخر ورثاء، لم يظهر فيها شعراء كبار منذ العراقي محمد مهدي الجواهري والسوريين بدوي الجبل وعمر أبو ريشة، واليمني عبدالله البردوني، وكلهم شعراء غادروا عالمنا في النصف الثاني من القرن العشرين. كما أن شعر الشطرين أصبح جزءاً من العناصر المكونة لقصيدة التفعيلة، تنوع به قصيدة التفعيلة على عالمها الشكلي الداخلي مستفيدة من التنوع الهائل الذي توفره بحور الشعر العربي الصافية، وما تتيحه البحور الشعرية العربية غير الصافية من إمكانات المزج الموسيقي. ومع ذلك، فإن ما أتوقعه خلال العقود المقبلة هو أن يتزايد تأثير قصيدة النثر نظراً لكثافة التوجه نحو الكتابة بها من جانب جيل كامل من الشعراء العرب الجدد، لكونها تمتلك من مرونة الشكل والتنبه إلى أهمية التفاصيل اليومية ما يجعلها قريبة من روح عصرنا، قادرة على مقاربة مشكلاته، والتعبير عن الخضات التي يتعرض لها هذا العصر المتقلب المتحول. لكن التنبؤ يظل تنبؤاً إلى أن يتحقق، وتحقيقه مرهون بطلوع عدد من الشعراء الذين يكتبون قصيدة نثر توازي في أهميتها ما كتبه شعراء في إطار قصيدة التفعيلة مثل السياب وعبدالصبور وأدونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش، شعراء بحجم الراحل محمد الماغوط على أقل تقدير.