المتأمل في أعمال الفنانة التشكيلية سحر عناني، يجد استلهامًا حميميًا من التراث الثقافي والعادات والفنون للمناطق القديمة والتاريخية في مكةوجدة، والتي أسهمت في صنع التاريخ الإنساني، وتعكس ثراء تلك الثقافات وعن ماضي الاستقرار المعيشي فيها، والاعتناء بالنواحي الجمالية، والاهتمام بالقيم الفنية والحفاظ بالمظاهر الاجتماعية والتمسك بالعادات والتقاليد، والاعتناء بالأنماط المعمارية (الرواشين والصُّفة والمِنوَر والكرويتة والطيرمة والباب القديم والأقفال العتيقة والرسوم الجدرانية ونقوش المفارش وزخارف الملابس النسائية) ومن هذه الخلفية التاريخية، بدأت «سحر» في التجريب بأسلوب «المونوكروم» للون الواحد، السريع الذوبان والمتغلغل في انسياب ناعم، بفسحات جمالية متعادلة، بطرح ردات الفعل الذهنية وردات الفعل العاطفي، مفعمة من عبق المكان، مختزلة العناصر، كرموز إيحائية رمزية، بدمج تكويناتها ضمن منظومة التجريد المفتوح على آفاق التأويلات المطلقة، تتجلى مع اللون ودرجاته، إلا ما يتردد للتنغيم به بلون آخر، في تناغم حميمي كقصيدة نثرية بمقامات حجازية تعزفها ومضات نورانية، تظهر في حركة الخطوط اللّامتناهية، بتكوينات هندسية وبنائية مسطحة وتبسيط في العناصر والاعتماد على البديهة، وتحليل أشكالها في الطبيعة وإعادة بنائها بطريقة جديدة، وجعل الأشياء المهملة والمهجورة، شكلا فنيا، بتجانس مضامينها وتآلف ألوانها، لتعبر عن ذاتها، لأنها توحي أسرارًا أكثر مما تصفه الكلمات والعبارات، وهذا هو هدف الفن والجمال، فقيمته تكمن في السر الذي يدفعنا إلى التأويل ومعايشة الخيال، الذي له دور رئيس في المنظومة التشكيلية، فليس ثمة تفسير لهذا النسق، الذي تتبعه «سحر» سوى الغوص في أعماق البيئة الحجازية، واستنباطات مكوناتها، بإدراكات حسية لمفاهيم نظرية، كنشاط انطباعي لتجربة بصرية وإرهاصات ذهنية لرؤى تخيلية من ذاكرة نشطة لبقايا مندثرة، بإيحاءات فلسفية ومضامين متجانسة، على شاكلة الانطباعيين، بهدف تسجيل التأثير البصري، بطريقة تثير المشاعر وتحرض المتلقي على التأمل، لأنها تريه شيئا يبصره بالعين مع شيء يدركه بالبصيرة، فهي تجمع بين البصر والبصيرة، وهنا يلعب الخيال، دوره الفاعل كعامل مشترك بين الفنان والمتلقي، لأن المتلقي، بدون الخيال، لن يرى إلا سطوحًا حتى لو نظر إلى الروائع، وكلما ازداد تأمله في السطح قل فهمه لما هو كامن وراءه، لأن الرؤية المجازية في هذه الأعمال التي ولجت بين طياتها سمات فنية مستمدة من عبق المكان، وتغلغلت داخل تجاويف اللون وتفاصيل العناصر وعمق الفكرة، تجسدت في أعماقها سرد من القصص العتيقة من واقع الحياة وما يحيط هذا الواقع من مظاهر الكون وظواهر الطبيعة وإنجازات الإنسان، جمعت بين أصالة الموضوع وعمقه وإيحاءاته الفلسفية، بمرونة وتقنية افتراضية، لها علاقة بالفضاء العام، بحركة مسارات وإدراكات حسية متوازنة، لتلتقي في الفراغات المفتوحة بسمات حداثية، لإن الفن «عندها» لا يُمنطق أو يُعلل، إنما يخترق البصيرة، فهي تصول وتجول وتسيطر على المساحة البيضاء التي أمامها وتتلاعب بتلقائية ورشاقة، لأن المفردات التي استخدمتها بشكل مختزل، وباستعارات تأثيرية رمزية، وترتبط شكليا بالبنائية التلقائية، هو تفسير لرؤية فنية خيالية، لذكرى كانت ماثلة، ثم اندثرت في زمن العبث والجحود، وهي القوة الكامنة لاستياء تلك المفردات المهملة المهجورة، فالفكرة هنا سيدة الموقف، وكمن يتنازل عن السيطرة الذهنية من أجل سيطرة أخرى، غير أن الخطوط المنحنية في حضن هدوءية الألوان وانسياباتها العفوية، دليل على أن رؤية الذهن فوق رؤية العين، من خلال تلك التلاعب المتقن، وتلألؤ المفردات بين ثناياها، كالكواكب في فضاء السماء لا يحجبها أشعة الشمس أو يخفيها غبار النسيان، وتشكل جميعها طرفًا لمعادلة الاستمرارية والتجاوز، له سطوته من الناحية الجمالية والرؤية التخيلية، وقوته التقنية وفلسفته اللونية، التي تغني وتثري العناصر التي تتكون منها، لتمنحها جميعا، بُعداً تزيينيا في بنائها التكويني، وتبلورًا خياليًا في حركاتها، بمعالجات موضوعية ونزعة صوفية، واستقلالية في المنهج، جمعت بين الأصالة والمعاصرة بأسلوب افتراضي جاذب، لتحبيب المتلقي بالاندماج الذهني، وتمعن آثارها في النفس الإنسانية، وتأثيرها للنظر، وملامستها الوجدان وروحانيتها في القلب، وهذه من ميزات فناني الجيل الخامس الذي تنتمي إليه «سحر عناني» وهم عادة من الطلائع والشباب المتحمس، جيل مقدام جسور يبحث ويجرب ويكتشف ويغامر في هذا الفضاء لإيجاد أسلوب جديد، في زمن التسارع في الحياة وروحية العصر، واكتساح التكنولوجيا والتطبيقات والمعرفة والعولمة، الذي يخترق حاجز عالم المظاهر ويقف على عتبة عالم جديد غريب لم يعرف عنه إنسان الماضي شيئًا.