عدت من قريتي هذه المرة، وأنا ينتابني الحزن الدفين على ما جرى للطبيعة حول بيتنا القديم!. تسع نعجات فقط، وبقرة واحدة، وجاموسة، وأتان صغير، هي التي بقيت من عشرات الأغنام والأبقار والجاموس والخيل والحمير! هذا ما حدث معي، أنا الذي لم أرَ نفسي، إلا معجونا، أو مفتونا، أو ساقياً، أو مطعماً، أو رابطاً، أو مطلقاً، أو جالساً في نشوة، أمام القطعان! رحت أسند ظهري على حرف «الطوالة» الاسمنتية التي كانت مخصصة لوضع الطعام لحيواناتنا المختلفة، وأنا مهموم للغاية، ليس لفراقها فقط، وإنما لفراق مشاهد الجَمال التي لا يمكن أن تغيب عن وجداني ما حييت! كانت «الطوالة» طويلة بالفعل، حتى أن بصري راح يمتد لآخرها عند جدار جارتنا من الجهة القبلية، فيما كانت البقرة الباقية ترمقني بنظرات عتاب لا استغراب! كان أخي قد قرر إغلاق مشروعه «الجميل»، وبيع كل الأبقار والجاموس، والعجول الصغيرة والكبيرة، وهو لا يدرك أنه يغلق جوانب من قلبي العليل! والحق أننا كلنا شاركنا في هذه الأزمة ولا أقول المأساة المؤلمة، حين راح بعضنا يشتكي من تردي نظافة الفناء حول بيوتنا، وأصوات الماعز وحركات الأغنام حولنا، وراح البعض الآخر يتحدث عن ضرورة زراعة المكان، فيما يؤكد طرف ثالث أن المشروع «خسران» بامتداد سنواته العشرين، وأن الناتج منه، لا يتجاوز المصروف عليه، فضلا عن الجهد الذي يبذله أخي في التردد الأسبوعي على القرية، والإشراف على ما يفعله المكلفون! وكان ما كان وخلا المكان من أجمل ما يمكن أن تقع عليه عين الانسان.. معزتان على تلك الشرفة، وأخريان على الشرفة المقابلة، وعجل كبير نافر، وآخر صغير يركض حول السور، وبقرة تستسلم للحلاب في منظر خلاب! صيحات اضطراب وصرخات مرح، والمكان بما فيه أشبه بمهرجان! يستيقظ أخي الذي درج على نوبة الصيحان بعد الفجر، منذ كان ضابطا صغيرا، حتى أصبح برتبة لواء، فتنتبه القطعان جزلة، معبرة عن غبطتها، وربما عن مطالبها، وأنا أتأمل المشهد من بعيد! حتى التاسعة صباحاً يظل أخي في مسرح العمليات، قبل أن يتوارى للحظات يستبدل فيها ملابسه، ويعود ليؤم مأدبة الافطار! وكنت في المرة الأخيرة قبل القرار الموجع، وتحديداً في عيد الأضحي قبل الماضي قد بدأت في مزاولة هوايتي في رصد مشاهد الجمال، ويبدو أنني أحسست بالفعل أنها المرة الأخيرة، فرحت ألتقط لكل حيوان صورة! وفيما كنت أقلب فيها بالأمس، انهمرت دموعي، وأنا أتذكر من بين الحيوانات المباعة هذا الحصان! لقد كان من الواضح أن أخي آثر تنفيذ القرار، وأنا خارج مصر كلها، حيث يدرك مدى تعلقي الشديد بكل ما كان في المكان من خيل أو بقر أو جاموس أو أغنام.. أكاد أتذكر الآن وجوهها كلها، وأكاد ألمح دموعها وهي تغادر المكان! رحت أتخيل ساعة المغادرة، وكيف كان الحصان يرمق بيتنا بنظرات معذبة، فيما تصدر هذه البقرة صرخة مبحوحة، وتصدر تلك خواراً مذبوحاً بألم الفرقة.. جاموسة صغيرة تلهث من فرط التأثر، علها كانت تعترض على ركوب السيارات المتجهة بها وبشقيقاتها صوب الأسواق! عجل صغير يلوذ بأمه فيجدها وقد ربطوا رقبتها بحبل خشن، قبل أن يزجوا بها نحو السيارة، يستسلم لقدره، وينتظر دوره ولو بين أقدامها المتثاقلة.. أتخيل جلبة أصوات الوداع، وهي تتصاعد، حزنا على أيام لن تعود! ترى! هل مازال الحصان حيا؟!. أعرف يالهفي عليه، أن الخيول تكتئب! في المرة الأخيرة أحسست أنه يودعني.. كان يصدر أنفاسا قوية ومتلاحقة قرب رأسي، وكانت رأسه تشرئب! أعرف كذلك أن الجاموس يحزن وقد «يحرن» - اعتراضا على الحلاب.. ياكل هذا العذاب!. أعرف أن الجراء الصغيرة قد تتوقف عن الركض! أتذكر كيف كانت العجول الصغيرة تحيطني، وعيون البقر تحملق في وجهي، لكنني لم أكن أعلم في الحقيقة أنها المرة الأخيرة، وأنا أخي سينفذ مثل هذه القرارات المريرة! تركت «الطوالة» التي سندت ظهري عليها، بعد أن طالت وقفتي عندها، وفي المسافة الى «الفيلا» كانت موسيقى الكائنات قد توقفت، وكانت الأرض نظيفة.. نظافة مزعجة! ترى هل كان لابد من مرور وقت أطول، حتى أدرك أن رؤية مشاهد الحيوانات حول بيتنا كانت الأجمل؟! وأن فراقها لنا ليست بالأمر الأسهل؟! تنتابني لحظات من الحنان المشتعل، تعقبها نوبة إعياء مشوب بالدوار، جعلتني أمضي لأنزوى هناك، تحت الأشجار! لقد اكتشفت أنني كنت مولعاً بالحب لحيواناتنا لأسباب مختلفة.. إنها أحاسيس خاصة بجمال المشهد الذي تتسع له الحدقات، فيقوى البصر! وقشعريرة في البدن الذي تنصهر فيه الدماء، فيقوى الجسد! وخفقان جميل في القلب فينتظم النبض، وطاقة تزيدني رغبة في الركض.. تجعلني في قمة حبي للكتابة والقراءة والأدب! والحق أنني لم أكن أجتهد كثيرا كي ألمس الجمال في عين بقرة شبه نائمة، أو في نعجة نافرة، أو في تواضع حصان.. ولذلك كنت ومازلت أرد على المنتقدين وأدافع وأقاوم.. الآن.. سيضعف البصر وقد تظلم العين.. صحيح أنه ليس في السماء غيم، لكن في قلبي حزن مدلهم! عدت الى كتاب «الحيوان» للجاحظ، فوجدته يقول: «أوما علمت أن الانسان سمّوه العالم الصغير سليل العالم الكبير، لما وجدوا فيه من جميع أشكال ما في العالم الكبير؟ لقد وجدوا فيه المحسوسات الخمس، ووجدوه يأكل اللحم والحب، وجدوا فيه صولة الجمل، ووثوب الأسد، وجود الديك، واهتداء الحمام.. ولا يبلغ أن يكون جملا بأن يكون فيه اهتداؤه، وغيرته، وصولته، وصبره على حمله الثقيل»!.. يا لحملي الثقيل!