سؤال مهم يجب أن تطرحه على نفسك لتُقيّم به ذاتك بناءً على طريقة تفكيرك وسلوكك تجاه كافة أمور الحياة، كيف تعلم أنك وصلت إلى مرحلة النضج الفكري التام والوعي الكامل؟ وهل هناك فعلاً مرحلة تسمّى بالنضج العقلي! النضج العقلي هو "امتلاك الفرد لدرجة كافية من الوظائف العقلية والقدرات المهارية والتفكير المعرفي والقدرة على الاستجابة للبيئة، وإدراك الوقت والمكان الصحيحَين للتصرف، والفهم الواضح للغرض من الحياة، والتحوّل من الاعتماد على الآخرين إلى الاستقلالية والاعتماد على النفس تماماً". ذكر العلماء أنّ هناك مرحلتين من مراحل تكوّن العقل وهما: مرحلة الطفولة العقلية ومرحلة النضج العقلي؛ وكلاهما لا يرتبطان بسنوات العمر الرقمية، فالعقل يمر بدورة حياة كاملة كالجسد تماماً وقد يصِل إلى مرحلة الشيخوخة المبكرة ويموت مع بقاء الجسد حياً، فنجد البعض قد عاش عمراً طويلاً إلا أنه لم يكتمل لديه البناء العقلي وما زال يطفو بتفكيره فوق السطح، أو يعيش الجمود الفكري والرجعية الجليدية، فتجده يفتقد التفكير المُتزن ويتسرًع في إطلاق الأحكام ويتجه نحو "شخصنة المواقف" والتعصّب النتِن والتصوّر الساذج للأمور، والاهتمامات السخيفة ومراقبة الآخرين والغوص في وحل "القيل والقال" وغيرها من السلوكيات البشرية السطحية. بينما في المقابل هناك شخص آخر ما زال في ريعان الشباب يحمل داخله بناءً عقلياً فريداً ومنطقاً حكيماً وفكراً عميقاً يجعله يسمو عالياً بوعيه الراقي ويعيش باتزان يتجاوز به الكثيرين ممن بلغوا من العمر عتيّا وما زالوا يقبعون في زنزانة الطفولة العقلية! ومن أهم طرق الوصول إلى النضج العقلي: الاستفادة القصوى من الخبرات والتجارب والأخطاء السابقة في بناء مهارات جديدة لتجاوز معارك الحياة بمرونة، وعدم التسرّع في إطلاق الأحكام قبل العودة إلى الدلائل والبراهين وممارسة التقدير الصحيح للأمور بتأني وهدوء، ومواجهة التحديات بقوة دون الاستهانة أو التقليل منها والاستعداد التام لكل الصعوبات المتوقعة، والتفكير في المستقبل بوضع الأهداف والخطط والسعي بجدية في رحلة تحقيقها دون الالتفات لرحلات الآخرين، مع الاعتراف بالخطأ والاعتذار بشجاعة واحترام حرية الآخر والانصات للآراء، كل تلك السلوكيات تؤدي إلى النضج العقلي المُبكر للإنسان. والأهم برأيي الإبحار في محيط القراءة بعمق، فمن خلالها تتوسع المدارك الفكرية ويتمدد الوعي ويكبر العقل متواضعاً أمام اتساع العلم وعظمة الملكوت الإلٰهي. ولن يكتمل البناء العقلي إلاَّ بضَّخه بالأفكار الناضجة والمُشبعة بالوعي والفكر المُتحرّر من التفاهة الدنيوية، فالعقل بحاجة إلى جاذبية قوية تسحبه نحو العمق الفكري المُزدحم بالعلم والفكر وفي حال فقدانه لتلك الجاذبية الفكرية سيظل يطفو على السطح بجانب التفاهات ويتخبط بين السخافات فيضيع العمر في اللا شيء! لذلك لا تخشَ العُمق؛ تجرأ واكتشفه حتى تتلذّذ بلُب الحياة لا بقشرتها الهشّة الهزيلة، عِش بفكر عميق وحرّر فكرك من طفولته العقلية، فالحياة ثمينة جداً لمَن اتقن اكتشافها وسخيفة جداً لمن تفنّن في ضياعها. عندما يسمو فكرك عالياً يصِل إلى منطقة آمنة من التفكير الراقي، فلا يعد شيئاً يثير انتباهك ويصبح تركيزك موجه نحو نفسك فقط وجوانب تطويرها، فكل ما يُقال عنك لا يدخل حيّز تفكيرك وكل ما يفعله الآخرون لا يقع ضمن اهتماماتك، وكما قال الروائي والكاتب البرازيلي باولو كويلو "ما يعتقده الآخرون عنك ليس من شأنك، وما تعتقده عن نفسك هو شأنك مدى الحياة". في مرحلة النضج العقلي تشعر وكأنك تعيش في جزيرة خاصة بك لا يسكنها سواك، تخلو من ضجيج العقول الفارغة، ترسو بقاربك بالقرب من شاطئها، تثبِّت قدميك على تربتها، وتوقِد نار فكرك الدافئ وتترك عقلك ينضج بهدوء مُستمتعاً بتأمل اكتمال نضج أفكارك مع ذاتك، وتلك أجمل مراحل الحياة.