اكتظاظ العالم اليوم وازدحامه بالكم الهائل من مُنتِجات الأفكار والمعلومات المُندفِعة نحونا كالطود العظيم يُشعرنا بعِظَم ما نحن بصدده واختياره، ويُنبِّهنا إلى قِصر وقتنا لتداركه، وبعِظَم مسؤوليتنا تجاه أنفسنا وأعمارنا ومجتمعنا. عالمنا يشبه المحيط الهائل المكوَّن من سطح شاسع الامتداد وعُمق شديد الانحدار، مُبهِر بما يحمله في احشائه من جوانب خفية تتوق إلى مَن يستكشِف خباياها. نحن نعيش اليوم في جوف عالم مُكتَظ بالحصافة والسخافة؛ فالحصافة هي استحكام العقل وجودة الرأي المبني على العلم والوعي، أما السخافة فهي تفاهة الوعي ونقص الإدراك وضآلة التمييز، والرابح من وفِق في انتقاء الحصافة والارتقاء عن السخافة، وارتكز على وعي عالٍ مُستَمَد من نتاج الخبرات الثقافية والشغف المعرفي والانصات إلى الآراء السديدة والبحث عن مصدر للإلهام وجعلها جميعها أساسًا لمُحركات عقله واستبعد كل السخافات المُحيطة به في المجتمع الذي بات مُثقلًا بها. فالكثير فضّل أن يطفوا على السطح، وثُلّة مَن اختاروا الغوص في الأعماق اِرواءً لعطشهم الدائم الذي لا يُروى، وشغفهم الذي لا ينتهي، هم دائمًا رغم علمهم "لا يعلمون" ويتشوقون للمعرفة اللا محدودة والتي لن يصِل إلى مُنتهاها أي مخلوق، ومهما ازداد الإنسان علمًا يظل محدود الفكر أمام عظمة علم الخالق العظيم كما قال تعالى في مُحكم التنزيل (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا). فإذا رأيت مَن ينتفخ مُتعجرفًا بعلمه وثقافته ويدَّعي وصوله لقمة العلم فتيقَن بجهله العميق ووعيه الضئيل، فكلما ازداد الجهل ارتفع معه مُعدل الكِبَر وكلما ازداد العلم ارتفع معه معدل التواضع، وذلك لإدراك الإنسان حينها مدى صِغَر حجمه وعلمه أمام عظمة صانع الكون. العقل كالآلة والإنسان هو من يُحركه ويضُّخ داخله عوامل التجديد ليعمل بدقة ويُنتج الأفكار الجديدة بناءً على ما اُدِخل إليه من معلومات؛ فإذا كانت المعلومات المُدخَلة إليه حصيفة وثمينة انتج العقل أفكارًا مُتجدِدة ووعيًا عميقًا، وإذا كانت المعلومات المُدخَلة إليه سخيفة ورخيصة انتج العقل أفكارًا تافهة ووعيًا سطحيًا. وكما ذكر ايكهارت تول في كتابه الرائع- قوة الآن- (العقل هو أداة جليلة ورائعة إذا اُستخدِم بطريقة صحيحة، لكن إن اُستخدِم بطريقة خاطئة فسيُصبح أداة هدَّامة، أنت لست عقلك -هو أداة - لهذا حرّر نفسك منه ولا تجعله يتملكك) والحديث عن العقل يطول ولا يكفيه مساحة هذا المقال. إذًا من المهم رفع مستوى الوعي لدى الإنسان والتحرّر من كل قيوده واطلاق تفكيره بعيدًا عن محدودية العقل. اصغِ إلى صوتك الداخلي ونهمك الدائم وشغفك للعلم، تسلَّح بالحصافة والذكاء في استغلال وقتك القصير على كوكب الأرض، فما أصعب أن تسبح لسنوات في مياه عمرك وحين يُنهَك جسدك ويذبل حماسك وتقترب من المرفأ الأخير تكتشف أنك ابحرت في الإتجاه الخاطئ!! مَن يعيش على قشرة الحياة سيفارقها غريبًا دون أن يتذوقها، فالحياة كالماء تنساب من بين أصابع العُمر بسرعة مُخيفة، فلا تكُن بسيطًا ومُكتفيًا بمحيطك المعرفي المحدود وامنح عقلك فرصة الانتقاء وإلقاء الترسبات الفائضة خارجًا، جرِّب أن تتلذَّذ بطعم الحياة لا بقشرتها، تَذَوَق جمال الكون وسحره وأسراره، ولا تكترث بمَن اختار السطح ليطفوا فوق مياه التيه والجهل والسخافة، وغوص في العُمق مُبحِرًا بين مياه العلم والوعي والحصافة. العقول توزعت ما بين الحَصْف والسُخْف، فاختر لعقلك ما يمنحه تقديرًا واجلالًا، ويرفعه تواضعًا ووعيًا وانصافًا.