سبعة أسابيع أو يزيد وأنا ساكن في دفتر الحزن، راثياً في كل أسبوع حبيباً!، والحق أن من قرأ لي في الرِثاء، حسبني دارساً له ومتخصصاً فيه، وهو لا يدري ربما أنه هو الذي اختارني!. كنت أحاول المغادرة، عندما جاءني في المساء نبأ رحيل صديق وزميل خامس، هو الزميل العزيز حسن باخشوين!، وكالعادة، كانت المكالمة الأخيرة معه، أجمل من كل المكالمات، وكانت ضحكاته ودعواته، ومواساته لي تنبئ عن مفاجآت!، ما أقساها على النفس يا حسن!. وكنت ومازلت أرفض أن يقال إن الرثاء فن أو أدب أو صنعة، فحين كتبت عن الأحباء الأربعة بحزن شديد وألم كبير، لم يكن هناك مجال للتدبيج أو التنميق أو حتى التفكير! وأتذكر هنا أنني كتبت رثائي في زميلي «عثمان» المسجى في غرفة مجاورة لمكتبي، واقفاً، حين كان ضابط التحقيق الشاب، يسألني سؤالاً ويتركني مستشعراً استغراقي في الكتابة ثم يعود! أتذكر جيداً أنني حين رحت أستغرق في الكتابة عن الجمال وبهجة الحياة، تعجب البعض بل تندّر على تمسكي بالفرح والأمل وحب قريتي، وبهجة الحياة، فلما استشهدت شقيقتي في نفس القرية، انكسرت واستغرقت في الرثاء، الذي لم يخرجني منه سوى ابنها النبيل الذي طلب مني الرفق بقلوب المحبين لها ولي، والتزام الصبر الجميل!. قاومت طيور الحزن، وعدت لاستكمال مشاهد وشواهد الجمال، وفي كل أربعاء، تأتيني من الردود ما يكفي وزيادة لأربعاء جديد أكثر اشراقاً وفرحاً وأملاً وسعادة! ثم كان ما كان، وتوالت فصول الحزن من جديد، فرحت أحكي راثياً أحبائي الأربعة، عن ذكرياتي معهم، وعن خصالهم، وعن أفضالهم ومآثرهم، خاصة وقد اكتشفت أن الموت حين كان يختطف أحدهم، كان يأخذ معه قطعة مني!. قال أحد القراء الكبار، وهو بالمناسبة شقيق مفكر سعودي كبير، إنه يحتفظ بمقالاتي في الرثاء، ليدرسها للأولاد والبنات من أبناء الأسرة، كدليل على الوفاء! والحق أنه قال كلاماً كبيراً، أعتبره وساماً على صدري، لكنه كغيره من الأصدقاء المثقفين كان يظن أنني درست فن الرثاء في الأدب العربي، حيث الاستهلال وهو حتمية الموت، ثم التفجّع، ثم إبراز تأثير الفاجعة في أهل المرثي وفي الراثي، ثم التأبين وأخيراً التأسّي والتعزّي. ويعلم الله أنني لم أقرأ في الرثاء أو عن الرثاء، إلا بالأمس القريب، حين وصلتني رسالة قارئي الحبيب! صحيح أنني قرأت قصائد لشعراء فحول في رثاء أصدقائهم، لكني لم أقرأ في الرثاء كفنٍ أو علم أو أدب أو صنعة، ومازلت أرفض كل هذه التسميات، ومما قرأته على سبيل المثال، قصيدة المهلهل يرثي أخاه كليباً: أَهَاجَ قَذَاءَ عَيْنِي الإِذِّكَارُ.. هُدُوّاً فَالدُّمُوعُ لَهَا انْحِدَارُ.. وَصَارَ اللَّيْلُ مُشْتَمِلاً عَلَيْنَا.. كأنَّ الليلَ ليسَ لهُ نهارُ!، وَبِتُّ أُرَاقِبُ الْجَوْزَاءَ حَتَّى.. تقاربَ منْ أوائلها انحدارُ!، أُصَرِّفُ مُقْلَتِي فِي إِثْرِ قَوْمٍ.. تَبَايَنَتِ الْبِلاَدُ بِهِمْ فَغَارُوا!، وَأبكي وَالنجومُ مطلعاتٌ.. كأنْ لمْ تحوها عني البحارُ!. وكذلك الرثاء الشهير للخنساء في أخيها صخر: يُذَكّرُني طُلُوعُ الشمسِ صَخراً.. وأذكرُهُ لكلّ غُروبِ شَمْسِ! ولَوْلا كَثرَة ُ الباكينَ حَوْلي.. على اخوانهمْ لقتلتُ نفسي!، فلا واللهِ لا أنساكَ حتَّى.. أفارقَ مهجتي ويشقَّ رمسي!. ومع استغراقي في التأمل لحالي المتقلب، الذي هو بالتأكيد حال دنيانا الآن، تذكرت قصيدة بودلير «من وراء القبر»، والتي يعاتب فيها القراء قائلاً: أيها القارئ المطمئن الوادع.. يا رجل الخير، السليم الطوية، القانع.. أطرح من يدك هذا الكتاب.. هذا الكتاب المستهتر الفاجع! إن كنت لم تتلقن فنون البيان، على النقيب الماكر الشيطان.. فاطرح كتابي، فلست واعياً منه شيئاً.. أو أنت معتقد بي لوثة العقل والخيال!، أما اذا استطاع طرفك -غير مفتون- أن يمعن في الأغوار، ويغوص في اللجة الى القرار، اذاً فاقرأني تعلم محبتي! نمت طويلاً وقمت، باحثاً أو متحرياً روحاً جديدة أكثر رضا وفرحا، متذكراً قصيدة «ثوب جديد» التي ترجمها الأستاذ طلعت الشايب للشاعر البولندي رتشيل كورن، ضمن خمسين قصيدة تندرج تحت مسمى «أصوات الضمير» والتي تقول: «اليوم لأول مرة، وبعد أسابيع طوال، أرتدي ثوباً جديداً.. لكنه قصير جداً على حزني.. ضيق جداً على محنتي.. كل زر أبيض من أزراره، يسقط مثل دمعة، من ثنياته، ثقيلة كأنها حجر!». فلما أحسست أن دمعتي، هي التي اختارتني، أغلقت صفحات الكآبة، وبدأت في الكتابة، موقناً أن الإحساس شيء جميل، مهما تخللته الدموع، وأن الحزن مثل الفرح، بل مثل الحب، يكون جميلاً اذا كان من أجل الجميع.. أدركت أن كتابتي مثل أوردتي لا تنتهي بداخلي، وإنما في الدم الجمعي، لكل من يرضى بقدره، وكل من يكافح من أجل بهجة الحياة!. قالت تمسك بالأمل، لا شيء يستحق الهم أو الندم! قلت: أختاه! أنت تنسجين الطفولة بالحلم، والحلم بالاحتمال الجميل، تستندين على حائط الذاكرة، فاسترجع العمر فيك، كأني الزمان الذي لا يغيب، فيخضر قلبي، وأعود للركض من جديد.. كأني قلبك أنت يدق.. ويرسمني من بعيد!