لماذا ما تزال معظم المجتمعات الوظيفية تعتمد نظام (8) ساعات عمل يوميًا؟!.. الجواب يعود لتاريخ مضى عليه نحو قرنين من الزمان، حيث كان العمّال خلال حقبة الثورة الصناعية يرزحون تحت وطأة العمل المُفرط لساعاتٍ طويلة (12 إلى 15 ساعة يوميًا، 6 أيام أسبوعيًا)، ويعود الفضل في تخفيض عدد ساعات «العبودية» الوظيفية، إلى صانع المنسوجات والناشط الاجتماعي البريطاني (روبرت أوين) الذي اقترح تقليص ساعات العمل الأسبوعية إلى (8 ساعات يوميًا، 5 أيام أسبوعيًا فقط)، وحينها، اعتُبر نظام العمل هذا ثورة اجتماعية تخفف من فرط إرهاق العمّال، وتقلّل من فُرَص تعرّضهم لحوادث العمل، فضلاً عن أنه يعطيهم أوقاتًا أوفر للنوم والاستجمام والترفيه، واستمرّ هذا النمط إلى أيامنا هذه بظن معظم الناس أنه مثالي وعادل، وهو ليس كذلك إطلاقًا. ومع تطوّر العلم والتقنية وطرق أداء الأعمال بشكل مُذهل، من المنطقي تخفيض مدة العمل إلى (6) ساعات يوميًا فقط «كحدّ أقصى»، أي (30) ساعة أسبوعيًا، ويكون الدوام من الساعة (9) صباحًا إلى الساعة (3) بعد الظهر، لاعتباراتٍ فطرية وصحيةٍ واجتماعية واقتصادية، وأن يكون الاهتمام بالدّوام المرِن وضبط الأداء «دون المساس بالراتب ولا البدلات»، حيث تتواتر تقاريرٌ علمية عن ضرر العمل لساعات ممتدة، ويكفي لأي ناظر حصيف، أن ينظر إلى وجوه العائدين من وظائفهم في آخر ساعة من النهار بعد دوامٍ مُنهِك طويل، ليعلم أنّ طول ساعات العمل اليومية بالشكل الحالي أمرٌ غير مقبول إنسانيًا، بل مضرّ صحيًا ونفسيًا واجتماعيًا وحتى اقتصاديًا، فبحسْب تقارير، فإن فرطَ الضغط الوظيفي والاحتراق النفسي وطول ساعات العمل الأسبوعية (أكثر من 40 ساعة أسبوعيًا) تُعدُّ من عوامل خطر الاكتئاب والتفكير في الانتحار. من المعلوم أن خفض ساعات العمل الأسبوعية «مع عدم تقليل الرواتب ولا المساس بالبدلات»، أمرٌ مطروحٌ وبقوة في المجتمعات المتقدّمة، وقد يتمّ تطبيقه في عدد من القطاعات المهنية خلال الفترات القادمة، بتقليلِ ساعات العمل اليومية إلى (6) ساعات، واختصار أيام العمل الأسبوعية إلى (4) أيام فقط، لارتباط ذلك بتقليل كلفة التشغيل، ورفع درجة الإنتاجية والرضا الوظيفي ومستوى الصحة النفسية والبدنية. يقول الفيلسوف وعالم المنطق (برتراند راسل): «إن العالمَ الحديث يُصيبه الكثير من الأذى نتيجة الاعتقاد بفضيلة العمل، بينما أرى أن السبيل إلى السّعادة والرفاهية ينحصر في الإقلال المنظّم للعمل، ولو أن الكادح في سبيل الرزق عمل مدة أربعِ ساعات يوميًا لكان هناك ما يكفي كلّ إنسان، ولما كانت هناك بطالة».