بيّنتُ في الحلقتيْن السابقتيْن أنّ مصطلح «دولة الخلافة» الذي أُطلق على الدولة الإسلامية في عصورها الراشدي والأموي والعباسي مخالف للحقائق التاريخية، وكذلك القول إنّ» الخلافة» من أسس النظام السياسي في الإسلام، لأنّه لا يوجد نظام للخلافة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين أحدًا يتولى الحكم بعده، وأعطى إشارة فقط عند مرضه، وعدم استطاعته إمامة النّاس بقوله: «مُرُوا أبا بكر فليصلِّ بالناس» وترك للناس يختارون من يحكمهم، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأربعة الذين تولوا الحكم بعده كل واحد تولاه بطريقة تختلف عن الآخر، وللناس أن يختاروا الطريقة التي تتناسب مع مجتمعاتهم وأزمانهم، وعندما تولى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه الحكم حوّله إلى حكم وراثي؛ إذ عهد به لابنه يزيد من بعده، ولم تُسمَّ بِ»دولة الخلافة»، وإنّما سُميت ب» الدولة الأموية» نسبة إلى حكامها بني أمية، وكذلك الدولة العباسية نُسِبت إلى حكامها بني العباس الذين حدث في عصورهم الثلاثة انفصالات كثيرة حتى اقتصر حكمهم على بغداد وضواحيها قبل سقوط دولتهم، أمّا الدولة العثمانية فنسبت إلى مؤسسها عثمان الأول بن أرطغرل، وكان يُسمّى حكّامها ب» السلاطين»، وكونّوا دولتهم بقتال المسلمين من عرب وغير عرب واحتلال بلادهم، وفرضوا عليها العزلة، وحاربوا لغة القرآن بفرض لغتهم التركية على ولاياتهم. ورغم هذه الحقائق التاريخية نجد ودون التحقق من مدى صحة الحديث أُستُهِلّ درس»الخلفاء الراشدون» في منهج الدراسات الاجتماعية والمواطنة لخامس ابتدائي، بحديث ضعيف رواه أبو داود، وهو»عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ» (ص14) وليس لهذا الحديث طريق ثابتة متصلة واحدة إلّا طريق عبد الرحمن بن عمرو السلمي الحمصي عن العرباض بن سارية الصحابي الحمصي (ت75ه)، وذكر ابن القطان الفاسي في»الوهم والإيهام» عن راويه عبد الرحمن: الرجل مجهول والحديث من أجله لا يصح.» هذا وعند استقصاء أدلة ألفاظ الحديث المختلفة، وجمع ما كان مرفوعًا منها أو موقوفًا على حد سواء، لم يوجد أي شاهد على لفظ «الخلفاء الراشدين»، ممّا يدل على أنّ عبد الرحمن أخطأ بذلك اللفظ، وهو لم يوصف بالحفظ أصلًا، إضافة إلى وجود نكارة في متن الحديث، فمعلوم من قواعد الشريعة أنّه ليس لخليفة راشد أن يُشرِّع طريقة غير ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابة رضي الله عنهم خالفوا الشيخين في مواضع ومسائل. فدل على أنّهم لم يحملوا الحديث على أنّ ما قالوه وفعلوه حجة. بل من غير المعقول أن يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تشريع السنة لغيره. ولو فرضنا جدلاً أنّه فعل، لكان وضع معايير واضحة لنعلم من هم الخلفاء الراشدون. ولو تأملنا أقوال العلماء في خلافة الحسن رضي الله عنه لعلمنا أنّ العلماء اختلفوا فعلاً في شخصية الخلفاء الراشدين. فكيف يأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنة غيره دون أن يحددهم لنا؟ وهو حديث يعتبره البعض من أصول الدين، كما أنّ عدم وجود حديث مهمّ كهذا في الصحيحين لمدعاة للتأمّل، ولم يخرج البخاري ولا مسلم منها حديثًا واحدًا، وهذا من أسباب ضعفها.»[للمزيد انظر:بيان ضعف حديث: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=137172] وهكذا نجد أنّ دُعاة «دولة الخلافة» يستدلون بأحاديث ضعيفة ليعطوا شرعية لدعوتهم، مع تغييرهم في الحقائق التاريخية للتوافق معها، وتدريسها لأولادنا دون التأكد من صحتها يدعم دعاوى الإخوان الذين يُنادون بها وتنظيماتهم، ويُخطّط رئيس تركيا الحالي لاستعادة السيطرة على البلاد التي كانت تحت الاحتلال العثماني بذريعة إعادة ما تُسمّى بِ»دولة الخلافة»، ويلقبه الإخوان ب»خليفة المسلمين»، مع أنّ الدولة العثمانية كان يُلقّب حكّامها ب»السلاطين» وليس بالخلفاء، فالقول بأنّ نظام الخلافة من أنظمة الحكم في الإسلام يُخالف الواقع التاريخي، فلم يكن هناك مسمى»دولة الخلافة»، وإنّما الدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية، فعن أية دولة خلافة يتحدثون، والتي بنى الإخوان تنظيمهم عليها، وأوجدوا تنظيماتهم المسلحة مثل القاعدة وداعش وغيرهما لإقامتها، وقد رأينا كيف أعلن زعيم داعش نفسه خليفة للمسلمين في الموصل عام 2014 بعد احتلاله لها، وما قامت به دولته من تهجير وقتل واغتصاب أعراض وقتل وحرق الأسرى، وبيع الأسيرات غير المسلمات، إضافة إلى ما أشاعته من رعب وإرهاب وخراب ودمار في البلاد التي دخلتها، والتي فيها من أتباع عقدوا بيعتهم للخليفة المزعوم، كما رأينا كيف مات مذعورًا باكيًا منتحرًا في نفق مظلم مغلق؟ وللأسف الشديد نجد مناهج الدراسات الاجتماعية والمواطنة للمرحلتين الابتدائية والمتوسطة، ومنهج التاريخ للمرحلة الثانوية تُردد مقولات ومصطلحات ذات مدلولات خطيرة يستخدمها الإخوان وتنظيماتهم المسلحة كغطاء لأعمالهم الإرهابية والإجرامية، وقد بيّنتُ في مقالات سابقة مدى مخالفة ذلك للحقائق التاريخية، وخطأ مؤرخي السيرة النبوية والمؤرخين القدامى والمعاصرين باستخدام تلك المصطلحات.