طرقات مدينتي دارٌ فسيحة.. مبنية بأجمل طراز.. بنى العنكبوت بيوته في كل أركانها، دارٌ آخرى متواضعة يبدو أن الرياح قد اقتلعت باب نافذتها، وأخرى يغطّي الصدأ قفلها وأطراف أبوابها.. صوت أنين أسمعه بقلبي وأذني.. لست واهمة.. سمعته يقول: أين أنت يا بُنيّ.. ليس بِرِّاً أن تترك زوايا بيتي يملأها بيوت العنكبوت.. أن تترك حديقتي تموت.. ليس بِرِّاً يا بْنيّ أن تهجر متكئي أنا ووالدتك الذي ضمّني بكم، وفيه كانت أول صرخاتك وأول عناق بين قلبي وقلبك، وفيه أماكن ركضي خلفك لأحميك وأطعمك، وفيه شغب نهارك وهدوء ليلك، وفيه المنفى والأمان وظلال ترف المشاعر وصدق الحنان، ليس مقبولاً لي أن تتعلل برّقة قلبك وعدم قدرتك على رؤية الأماكن بعد رحيلي.. البِرِّ يا بُنيّ أن تُحيي البيت الذي بنيته بدم قلبي، دفعتُ ثمنه راحتي وساعات صفائي واسترخائي، بنيته بأمل أن يبقى لك ولإخوتك تتقاسمون فيه الضحك والدموع، الفرح والحزن، تجمعكم فيه الذكريات وتملأ ضحكاتكم وضحكات أحفادي زواياه.. فيصيبني الحبور في قبري...! ليس برِّاً يا بُنيّ أن تهجر بيت أبيك وأمك الذي جمعكم صغارًا وظلّكم بظلاله الوارفة حتى صرتم كبارًا ثمّ تركتموه مرغمين لتبنوا بآمالكم بيوتاً جديدة (سنّة الحياة).. ثمّ عاد وفتح ذراعيه لكم لترتموا في أحضانه كل إجازة ومناسبة، والآن بعد رحيلي تركتم (بإرادتكم) قلبه للوحشة متعللين بأن المكان لم يعد يسعكم حزنًا وكمدًا.. نعم رحلنا ولم يعد هناك من يُهيىء لكم المكان، لم تعد غرف نومكم نظيفة وتفوح منها روائح العود والبخور، ولم تعد رائحة الهيل والبنّ تملأ أرجاء منزلكم، لم تعد صواني أمكم ورائحة أكلها الشهيّ تملأ المكان.. لكنّ ذكرياتنا يا بُنّي ما زالت باقية ورائحة والديك المعتّقة تُثير الدفء وتحنو على أرواحكم وتضمّد بحبّ شروخ جراحكم، وتطبطب على نوبات شوقكم.. فلا تتركوا يابُنيّ دار والديكم فلم تُبن لتُهجر.