حسب مُولِّف كتاب «مُتْ فارِغاً Die Empty»، الأمريكي تُود هنري، فإنّ المقابر هي أغنى أراضٍ في العالم قاطبةً، وهي في نظره أغنى حتّى من الأراضي التي يوجد البترول في أعماقها، وأغنى أيضاً من مناجم الذهب والألماس، وما ذاك إلّا لأنّ ملايين البشر ماتوا ودُفِنُوا فيها وهم يحملون في داخلهم الكثير من الأفكار المُثْمِرة التي تُفيد مجتمعاتهم، ممّا لم تخرج إلى النور ولم يستفد منها أحد، وظلّت حبيسة جُدران المقابر الترابية المُظلمة، وستظلّ كذلك للأبد!. لهذا حفّز هنري كلّ البشر بأن يُفرّغوا ما بداخلهم من الأفكار وإفادة مجتمعاتهم بها قبل موتهم، وكما سعوا في حياتهم لأن يعيشوا فارِغِين من مشكلات الحياة وآلامها فعليهم أن يسعوا للموت فارِغِين من أفكارهم، حتّى لو كانت الأفكار مجرّد علوم فقط فليُبلّغوها لمن يجهلها، وإن لم يفعلوا فسيموتون بِتُخْمة في داخلهم، مثل تُخمة الطعام الفاسد، ولن يستفيد منهم سوى ديدان الأرض عندما تأكل أجسادهم البالية وعظامهم النخِرَة!. ولو أسقطنا هذا الكلام على مُتقاعدينا الذين هم نظرياً لا عملياً أقرب البشر للموت من غيرهم كقاعدة يشذّ عنها الكثير، بفضل العليّ القدير، فأقول ورزقي على الله أنّ لديهم العديد من الأفكار المحبوسة في داخلهم، وللأسف ساهم مجتمعنا بذلك الحَبْس، وقد نأى بنفسه عنهم نأياً بعيداً، ولم يحفّزهم لإخراج ما لديهم من أفكار بعد التقاعد، رغم الخبرات الهائلة التي اكتسبوها قبل التقاعد، وأمست أفكارهم مسجونة في صدورهم سِجْناً مُؤبّداً، وهذا هو الذي جعلهم يموتون إمّا قاعِدِين بلا حِراك، أو مُهاجِرِين بعشرات الآلاف إلى الخارج مع مُدّخراتهم ورواتبهم التقاعدية الضخمة في مجموعها، يُنْعِشون بها اقتصادات الدول التي هاجروا إليها، خصوصاً تلك التي تقلّ عُملتها قيمةً عن الريال السعودي، ولا أجد ما ألومهم به على ذلك، فهم أشبه بِعُدَّة في يد، إن لم تُحرّكها هذه اليد تقبع في صندوقها الحديدي وتصدأ، وإن كُنْتُ لا أغفل كسل بعض المُتقاعدين الشخصي عن إفراغ ما بداخلهم من أفكار إلّا أنّ مجتمعنا بقوانينه التقاعدية المتواضعة في جُلِّها، وبعدم دعمه الكامل للمُتقاعدين يظلّ الطرف الأكبر تحمّلاً لمسئولية عدم تحريك عجلة إفراغ أفكارهم، وعدم استفادتنا منهم، وصاروا سائِرين في طريق تذوّق الموت المحتوم على كلّ نفس قاعِدِين أو مُهاجِرِين لا فارِغِين، وكفى بذلك تقصيراً مُبِيناً، وكفى بذلك خسارةً لثروة فِكريّة كبيرة!. هل تريدون الخُلاصة؟. نحتاج لرؤية وطنية جديدة ننظر بها بِعَيْنٍ أخرى للمُتقاعِدِين!. وربّما لوزارة جديدة تُعْنَى بشئونهم ورعايتهم والاستفادة منهم!. «ليش» لا؟.